مشاهد العنف فی التلفزیون..هلتؤدیالیالاجرام؟ | ||
یواجه علماء الاجتماع والنفس دائما بمشکلات تتولد فی وقت واحد فی بلاد کثیرة، یختلف بعضها عن بعض فی نواح متعددة من مجالات الحیاة. من هذه المشکلات مشکلة العنف وعلاقتها بالتلفزیون من ناحیة، وعلاقتها من ناحیة أخرى بما یسمیه علماء الاجتماع (السلوک غیرالطبیعی)، وما یسمیه الناس فی لغتهم العادیة (بالاجرام). وهذه محاولة لالقاء الضوء على أهم وجهات النظر العلمیة فی هذه المشکلة البالغة التعقید. یوجد فریق من العلماء یوجّهون اهتمامهم الى الخصائص الممیزة والخبرات السابقة فی ماضی الانسان الذی یرتکب حوادث العنف، آخذین فی اعتبارهم علاقة هذا الانسان بوسائل الاتصال وأی نوع منها هو المفضل لدیه. کما أن المحللین النفسیین على سبیل المثال یبحثون فی المیول العدوانیة التی قد تتولد نتیجة لصدمات وتجارب فی مرحلة مبکرة من العمر، وقد تکون الصدمة حدثت للطفل على أثر مشاهدته لأحد مشاهد العنف فی التلفزیون. أما علماء النفس الاکلینیکیین فیهتمون بالدرجة الأولى بدینامیکیة التفاعل المتبادل بین الانسان والبیئة التی یعیش فیها.
بین المشاهد العنیفة والانحراف من ناحیة أخرى یبحث علماء علم النفس الأجتماعی فی مشکلة مشاهد العنف فی التلفزیون ونتائجها على ضوء دراسة مجموعة من المواقف الفردیة، ومظاهر ترکیب نسیج المجتمع التی تساعد على ظهور هذا الموقف، أو ذاک النوع من السلوک الفردی. وفی هذا المجال اکتشف بعض العلماء عن طریق التجربة، بعض العوامل مثل (الحرمان النسبی) أو (البحث عن هویة للذات) وربطوا بینها وبین بعض أنواع السلوک کالعزلة أو الاحساس بالعجز التی قد تؤدی بدورها الى ممارسة الفرد لنوع أو آخر من أنواع العنف. ویوجد فریق آخر من العلماء الذین ینادون بتفسیر العلاقة بین مشاهد التلفزیون العنیفة، وبین السلوک المنحرف على أساس المجموعات الاجتماعیة والترکیب الاجتماعی ولیس على الأساس الفردی. ان علماء الاجتماع یصرّون فی المقام الأول على خصائص ترکیب نسیج المجتمع، واعطائها أهمیة کبرى الى حد القول بأن هذه الخصائص لها علاقة بممارسة الفرد للقوة والسیطرة. ان التقسیمات التی أشرنا الیها تبعا لنوعیات العلماء، قد جرى تعمیقها بقصد الوصول الى فهم أفضل للعلاقة بین مشاهد العنف فی التلفزیون وبین الأجرام، مما أدى الى ظهور عدد کبیر من النظریات والفروض التفسیریة.
التلفزیون وشخصیة المشاهد کثر الحدیث فی السنوات الأخیرة عن نوع جدید من المفهوم الثقافی للعنف، وهذا المفهوم یفصح عن نفسه فی بعض الأعمال الوحشیة والعدوانیة التی یعرضها التلفزیون. فاذا سلمنا الآن بأن کل کائن بشری ـ ابتداء من طفولته حتى نهایته یتحتم علیه أن یمتص، ویصحح، ویکمل، ویرفض بعض القیم والتقالید والعادات لکی ینمی ویطوّر ترکیب نسیج شخصیته، فاننا نجد أنفسنا ازاء عملیة تکیف بالنسبة للمجتمع غایة فی التعقید، ولکنها تتیح لنا أن نکتشف انفسنا أولا ثم نکتشف العالم الذی نعیش فیه ثانیا. وأی انسان یقول أن التلفزیون یلعب دوراً تافهاً أو لایقوم بأی دور على الاطلاق داخل عملیة تکییف أنفسنا بالنسبة للمجتمع، انما یغلق عینیه عن رؤیة حقیقیة لاسبیل الى تجاهلها أو انکارها. ففی اطار عملیة التکیف بالنسبة للمجتمع، یمدنا التلفزیون بجمیع المؤثرات التی تستطیع أن تحدث تآثیرا مباشرا فی شخصیة المشاهد، عن طریق المحکاة والاحساس بالتوحد مع شخصیة البطل التی یعرضها التلفزیون. المحاکاة والتقلید ان نظریات المحاکاة تؤکد بأنه تحت ظروف معینة، وفی بعض المواقف المعینة یتجه الانسان باعادة تمثیل الأفعال والتصرفات أو الانفعالات التی رأى غیره یمارسها على شاشة التلفزیون. ومع أن هذه النظریة قد أثبتت صحتها فی کثیر من الأحیان، الا ان بعض المعارضین یقولون انها نظریة تفسیر العلاقة بین العنف فی التلفزیون والاجرام بطریقة میکانیکیة بحتة، وانها تستند فی أساسها الى الرباط المباشر بین السبب والنتیجة دون اعتبار للعوامل الأخرى الاضافیة التی تؤثر فی تلک العملیة.
المناظر العنیفة والتفریغ الانفعالی وبالاضافة الى هذه الآراء توجد مدرسة فکریة تعتقد بأن مشاهدة مناظر العنف فی التلفزیون لاتؤدی الى اعتبار العنف أو الوحشیة أسلوبا للحیاة، بل على العکس من ذلک تماما، فان علماء هذه المدرسة یعتقدون بأن مشاهدة مناظر العنف فی التلفزیون تتیح للمشاهد أن یتخلص فی خیاله من رغبات کان من الجائز أن یحققها فی الواقع لولا عملیة التفریغ التی تحدث له عنه مشاهدة هذه المناظر العنیفة. وفی هذا الصدد یلجأ هؤلاء العلماء الى تطبیق نظریة أرسطو فی التراجیدیا عن (التطهیر) أو (الافراغ الانفعالی). ولتوضیح ذلک نقول ان نظریة أرسطو تعلن أن الانسان یشعر باللذة والسرور عند مشاهدة التراجیدیا لأنها تثیر فیه احساسات الشفقة والخوف بالنسبة لبطل المأساة، وبذلک یتطهر المشاهد من هذه الاحساسات ویتخلص منها مع احساسه بالراحة لأن الکوارث التی ألمت ببطل المسرحیة لم تقع علیه هو. ویدلل هؤلاء العلماء على صحة نظریتهم بقولهم أن أطفال الطبقة السفلى من المجتمع الذین تنقصهم الموارد والامکانیات، وبالتالی لایتمتعون بقدرات کبیرة على الخیال، هؤلاء الاطفال یحتاجون الى تزویدهم بمادة اضافة من الخارج لکی یستطیعوا مجاراة الآخرین فی مقدرتهم على التخیل، ومعنى ذلک باختصار أن مشاهدة أفعال العنف فی التلفزیون یمکن أن تکون مفیدة باعتبارها صمام أمام للتنفیس عن الاحباطات والنزعات العدوانیة. على أنه توجه طائفة أخرى من المفکرین الذین یقولون أن عرض مشاهد العنف فی التلفزیون لاتحدث الا تأثیرا طفیفا، أو لیس لها تأثیر فی مجتمع منضبط یشیع فیه الاستقرار والأمن والطمأنینة. وهؤلاء یعتقدون بأن المشاهد السلبی لمناظر العنف یمکن أن یشارک بحاسته البصریة فقط فی أفعال العنف دون أن یکون لهذه الأفعال أی رد فعل أو تأثیر سیء على مشاعره أو مواقفه أو أشکال سلوکه.
الاحباط والسلوک العدوانی ومن أهم النظریات الشائعة لتفسیر العلاقة بین العنف فی التلفزیون وبین السلوک المنحرف نظریة التحلیل النفسی التی تستند الى عنصرین: الاحباط والعدوان، باعتبار أن العدوان نتیجة للاحباط. وهذا هو التفسیر الکلاسیکی للمشکلة والذی کان أساساً لابحاث لاحصر لها فی هذا المجال. وقد اتضح من هذه الأبحاث أنه من الخطأ الاعتقاد بأن الاحباط یؤدی حتما الى نوع من أنواع التعبیر العداونی. أما الصحیح – الذی یمکن اثباته – فهو السلوک العدوانی یسبقه دائما موقف من مواقف الاحباط. ومع ذلک یجب التحذیر من تطبیق هذه النظریة من جانب واحد عندما نحاول تفسیر العلاقة بین مشاهد العنف والاجرام. وعلى أیة حال فاننا حتى ان سلّمنا بأن الاحباط یؤدی الى حالة انفعالیة – کالغضب مثلا – فانه یجب الا یغیب عن بالنا أن انتقال الانفعال الى مرحلة الفعل یتوقف على عوامل أخرى من أهمها التکیف الاجتماعی والوضع الاجتماعی الثقافی.
الارتکاب الفعلی لاعمال العدوانی وقد أثبت علماء الاجتماع أن التکیف یتحقق بوساطة عوامل متعددة ابتداء من الاختلاط المتکرر، الى الاشکال الأکثر استقرار مثل المحاکاة والتقلید والتعود، وأثناء هذه العملیة یکتسب الانسان مجموعة القیم التی ستکون جزءا أساسیا لایتحزأ من ترکیب شخصیته. ان الأبحاث التی أجریت فی هذا المجال أثبتت أن الانسان المنطوی یکون أکثر قابلیة للتکیف وبالتالی أکثر استعداد لامتصاص القیم، فی حین أن الانسان المنسبط یقاوم التکیف وغالبا ما یقع تحت سیطرة ردود الفعل الانفعالیة. ان کلا من هذین النوعین: المنطوی والمنبسط، یمکن أن یبدر منه نوع أو آخر من أنواع السلوک العدوانی، الا أن احتمال ارتکاب فعل عدوانی نتیجة لمشاهدة العنف ی التلفزیون یختلف من شخص الى آخر. ان الأبحاث التی تأخذ فی اعتبارها العامل الاجتماعی الثقافی تستند أساسا الى الافتراض بأن السلوک الانسانی فی مجموعة – الذی یشتمل أیضا على السلوک العدوانی – یجب أن ینظر الیه فی ضوء العلاقة مع البیئة الاجتماعیة الثقافیة التی ینبع منها الفعل العدوانی. واذا کان من المسلّم به أن الانتماء الى طبقة اجتماعیة معینة، والى شعب معین، وأن نوع المهنة التی یزاولها الفرد، ودرجة تعلیمه، وکثیرا من العوامل الاجتماعیة الأخرى تلعب دورا رئیسیا فی تهیئة الفرد للانحراف، فاننا لایمکن أن نلقی اللوم على مشاهد العنف فی التلفزیون، واعتبارها المسؤول الوحید عن السلوک العدوانی سواء لدى الصغار أو لدى البالغین. لذلک فانه من العبث أن نکتفی بعمل احصاء لعدد مشاهد العنف التی یعرضها التلفزیون فی الاسبوع ثم نواجه محطات التلفزیون بهذه الأرقام کدلیل على تأثیرها الضار على الشباب. ان المشکلة أکثر عمقا وأکثر تعقیدا، والمطلوب هو التوصل للاجابة عن السؤال التالی: الى أی حد تسهم مشاهد العنف فی التلفزیون فی خلق ترکیب اجتماعی ثقافی من أنواع السلوک والمعاییر والقیم التی تدفع الفرد اما الى الارتکاب الفعلی لأعمال العدوان أو الى تنمیة الرغبة لدیه لارتکاب هذه الأفعال؟ ولکی یستطیع الباحثون الاجابة عن هذا السؤال فانهم وجدوا أنفسهم أما سؤال ضخم ذی ثلاث أقسام: (1) هل اذاعة مشاهد العنف فی التفزیون تساعد على الاقتناع بالفکرة التی تقول بأننا نعیش فی عالم من الوحوش یسیطر علیه قانون الغابة، ولذلک یجب علینا بالتالی أن نتقبل العنف على انه معیار اجتماعی أو قیمة اجتماعیة؟ (2) هل تنجح مشاهد العنف فی التفزیون فی اقناع المشاهدین بأنهم یعیشون فی عالم لابد من الکفاح من أجل تغییره؟ (3) وحتى اذا نجحنا فی اثبات براءة مناظر العنف فی التلفزیون من احداث آثار ضارة لدى المشاهدین، من ناحیة تشجیع أو ابراز المشاعر والافعال العدوانیة، ألا یجدر بنا أن نطالب محطات التلفزیون والقنوات الفضائیة بانتاج وتشجیع البرامج التی تعرض أشیاء بدیلة لعالم العنف؟
التلفزیون وتؤثر الاطفال وقد لاحظ الباحثون أثناء دراستهم للترکیب الاجتماعی الذی غالبا ما یطلقون علیه اسم (الوسط الاجتماعی ) أو (البیئة الاجتماعیة) أو (الاستعداد)، لاحظوا أن الاطفال الذین یشاهدون التلفزیون بصفة مستمرة – والذی کثیراً ما تشتمل رسومه المتحرکة على مناظر للعنف – لایتأثرون فی أغلب الأحوال بما یشاهدونه من هذه المناظر . ان الأطفال الذین یتأثرون بهذه المناظر ویجنحون الى تحویل مشاعرهم العدوانیة – بعد مشاهدتهم مناظر العنف – الى أفعال عدوانیة هم فقط اولئک الذین لدیهم استعداد مسبق للسلوک العدوانی نتیجة لعوامل أخرى. وقد اتفقت الابحاث الأخیرة مع ملاحظات هؤلاء الباحثین. وهذا یعنی أن التلفزیون له تأثیراً محدوداً اذا ما قورن بتأثیر سلوک الوالدین أو خبرات الطفل بالسلوک العدوانی داخل بیئته الاجتماعیة. ان الأبحاث فی هذا المیدان تقتضی استمرار المتابعة بالنسبة للشبان والأطفال لعدة سنوات لمعرفة تأثیر مشاهدة مناظر العنف على سلوکهم. ان واقع الحال یؤکد أن التلفزیون یمکن أن یشجّع بطریقة غیرمباشرة أو بطریق المصادفة بعض الأفعال العدوانیة، وذلک فی حالة وجود دوافع ونزعات لدى الفرد، مضادة للمعاییر والقیم المعترف بها فی المجتمع، أو فی حالة اندافع التلفزیون نحو تمجید الجریمة أو تحقیر بعض القیم الاجتماعیة، وهذا لایحدث الا نادرا جدا لأنه یعنی انحراف التلفزیون عن هدفه. | ||
الإحصائيات مشاهدة: 2,468 |
||