الدور التربوی للاسرة | ||
تُعتبر سنوات المراهقة، الامتحان الحقیقی لدور الأهل وصحة تربیتهم أو خطئها. وتشکّل هذه المرحلة الفترة الأصعب والأدق بالنسبة للوالدین، إذ هی فرصتهم الأساسیة والحاسمة للقیام بدورهم وتطبیق رؤیتهم التربویة. فإذا انقضت هذه السنوات باتت المسؤولیة على الابناء فی إکمال إصلاح نفوسهم وبناء شخصیاتهم، وإن کانت الصورة الکلیة للشخصیة تظهر وتبدأ بالتبلور فی سنوات المراهقة نفسها. فما قبل المراهقة، أی سنوات الطفولة بشکل عام، یکون دور الأهل سلبیاً فی أکثر الأحیان. ونعنی بذلک أن کل ما علیهم أن یؤدوه هو عدم الخطأ فقط. وإن لم یقدم الوالدان لابنائهم فی هذه المرحلة الاّ العاطفة والاحترام، وترکوهم یعیشون تلک السنوات بحریة وانطلاق، ولم یمارسوا علیهم القمع والقهر مطلقاً لکان ذلک کافیاً لیخرج الطفل من طفولته سلیماً. فالطفل فی الواقع لایخطئ أصلاً، ومهما فعل فإنه لایدرک أن الذی فعله خطأ أو صواب لعدم امتلاکه المیزان لذلک وعدم قدرته اصلاً على امتلاک هذا المیزان فی هذا العمر. فإذا کسر الطفل شیئاً من وسائل المنزل، لا یشعر بأن خللاً ماقد حصل، وإذا أزعج إخوته أو أصدقاءه فلیس من منطلق سیء أبداً. إن الطفل فی هذه المرحلة یکتشف نفسه والعالم من حوله. ویحاول اکتشاف ردود فعل الآخرین تجاه کل حدث یقع أو یوقعه هو بنفسه لتلک الغایة. وکما تکون ردود الفعل یحدد الطفل آلیة السلوک فی المستقبل القریب فقط؛ لانه قد ینسى سریعاً ما حصل معه قبل یومین مثلاَ. وهکذا، فکما یقال إن الطفل ((معصوم)) عن الخطأ لانه لم یصل الى مرحلة التکلیف. وطالما أنه لیس مکلفاً فلا یصح نسبة أفعاله للصواب أو الخطأ. کل ما هنالک أن الأهل قد یستنتجون أن الصفة الفلانیة فی ابنهم قد توقعه فی أخطاء مستقبلیة إن استمر علیها. فإذا کانت طفلتک من النوع المتسلّط، تسیطر على من حولها من أبناء عمرها دائماً و((تظلمهم)) بمفهوم الکبار، یمکن أن تستنتج أن هذه الصفة فی ابنتک قد تتحول إلى إحدى صفتین فی المستقبل: إما أن تکون ظالمة قاسیة، وهذا ما یجب أن تعمل على تغییره منذ سنوات الطفولة، وإما أن تکون قیادیة قویة الشخصیة وهذا ما یجب أن تعززه منذ سنوات الطفولة أیضاً. ویکون ذلک بالتوجیه غیرالمباشر ـ أی بإبراز النموذج المطلوب أمام ابنتک من خلال سلوکک أنت أو سلوک الوالدة أو أی شخص آخر. ولکن لایمکننا القول أبداً بأن هذه الطفلة سیئة ویجب تأدیبها. وإذا کان ولدک لایعطی لشیء قیمة. یلعب بألعابه الجدیدة ثم ما یلبث أن یدعها للآخرین لیخربوها. لایهتم بامتلاک شیء خاص به ولا یحافظ على أغراضه من سطوات الآخرین. فإن هذا الأمر إما أن یتحول فی المستقبل إلى لامبالاة واستهتار وإما أن یتحول إلى کرم ممدوح وید مبسوطة دائماً. ودور الأهل فی سنوات الطفولة أن یعملوا على تعزیز الصفة المطلوبة بأدائهم وابراز النموذج المطلوب والثناء علیه دائماً. إن ما یحتاجه طفلک منک هو القدوة الحسنة. وغالباً ما یکون الولدان فی هذه المرحلة هما القدوة بالنسبة للطفل، حسنة کانت أو سیئة، فإن الطفل سیعمد إلى تقلیدها. ویحتاج منک أیضاً أن لا تمارس علیه القمع، قال رسول الله صلى الله علیه وآله وسلم ((دعه سبعاً)). ولیس معنى أن تدع ولدک سبعاً، أن لاتوجهه أو تربیه، وإنما المطلوب هو عدم التأدیب بمعنى العقاب وفرض القوانین لأنه کما أوضحنا فلا صواب أو خطأ بالنسبة للطفل فی هذه السنوات. إن عنوان التربیة فی مرحلة الطفولة هو أن تدع ولدک یظهر کل میوله ورغباته ویعبّر عن نفسه کما یشاء. ولایلجأ الأهل إلى التأدیب الاّ حین الخطر الحقیقی، کاحتمال الموت مثلاً إذا لعب الطفل بسلک کهربائی أو حاول أن یقفز من مکان عال جداً. ومع تقدیم الأهل للقدوة الحسنة والدعم العاطفی المطلوب فی هذه المرحلة یمکنهم أن یکتشفوا توجهات ولدهم وصفاته لیعملوا على توجیهها وتعدیلها بشکل غیرمباشر فی سنوات الطفولة وبنحو مباشر فی سنوات المراهقة حیث تبدأ مرحلة التأدیب الفعلی. وبعد سنوات المراهقة، تکون شخصیة الولد قد تکونت، أو أن بذورها قد بذرت وبقی ان تظهر فقط. وعلیه فإن دور الأهل یقلّ أهمیة وأثراً. ویصبح توجیههم کأی توجیه یتلقاه الولد من غیرهم ویفعل فعله بحسب الشخصیة التی کوّنها فی سنوات مراهقته. ولذلک فالأهل لا یراهنون على ما بعد المراهقة لإعمال دورهم، فإن ولدهم بات أخاً أو وزیراً لهم کما فی الروایات. وأضحت العلاقة تبادلیة بین الطرفین. وتحدد قوة کل طرف وأهمیة دوره سنوات المراهقة نفسها. وتصعب عملیة الاصلاح والتهذیب کلما ازداد الانسان عمراً. فالغصن الأخضر الطری یسهل تصویب إعوجاجه لکنه إذا ما نبت واشتد عوده فإن تقویمه یصبح صعباً للغایة إن لم نقل أنه لن یحصل. وهکذا الإنسان، فإن بذور أخلاقه وصفاته تزرع فی قلبه فی سنوات المراهقة، وتبدأ بالنمو فی تلک المرحلة أیضاً. فإذا انقضت تلک السنوات تکون قد ترسخت جذورها واشتد عودها ورسمت مسار صاحبها، فیصیر أمر إزالتها أو تغییرها صعباً إضافة إلى أن عزم الانسان وإرادته تضعف کلما ازداد عمره. لکن هذا لایلغی إمکانیة التغییر والاصلاح. فما دام الانسان مختاراً فهو قادر على فعل ما یرید. لکن صعوبة ذلک أو سهولته تختلف کثیراً بحسب المرحلة العمریة التی هو فیها. وواضح أن التغییر والاصلاح یسهل فی حال اللااستقرار واللاثبات ـ والتی هی سنوات المراهقة ـ کما تسهل حرکات التغییر والثورات فی حال تزعزع الحکومات وضعفها. وعلیه مهما کان احتمال التغییر والإصلاح وارداً فی مراحل عمر الإنسان المختلفة فإن نسبة هذا الاحتمال لایعوّل علیها بالمقارنة مع ما تحمله سنوات المراهقة من فرص وامکانات فعلیة لبناء الشخصیة السلیمة والمتکاملة. ما هو دور الأهل فی هذه المرحلة التی تحمل تلک الخصائص والممیزات الاستثنائیة؟ کیف یمکن للأهل أن یرفعوا عن أولادهم عناء هذه السنوات ومراهقتها؟ وإلى أی مدى یمکن أن یتحکموا بمسار الأمور ومجریاتها؟ من المسائل الأساسیة التی ینبغی على الأهل أن یصححوا رؤیتهم حولها حتى تسهل علیهم عملیة التربیة بکل تفاصیلها هی النظرة إلى الأبناء وما یتوقعونه منهم. یجب على الأهل أن یعرفوا ما هو سبب إنجابهم للأولاد ولماذا یحب الإنسان أبناءه؟ هل یعتبر الاولاد ملکاً لآبائهم أم أنهم لیسوا ملکاً لأحد بل عبید لله، تماماً کما الأهل، ولا ولایة لأحد على أحد الاّ بما أمر الله ورسوله؟ هل تتعیّن على الابناء طاعة والدیهم فی کل ما یأمرونهم به أم أنه لاطاعة لمخلوق على مخلوق الاّ بما نصّ علیه الشرع، وواجب الأبناء هو البرّ بالوالدین والإحسان إلیهما؟ هل تنحصر محبتنا لأبنائنا فی کونهم منا ولنا أم أنها تتعدى ذلک فنحبهم لأنهم مسلمون مؤمنون وهم سیکثرون من قول لا اله إلا الله فی الأرض، ونربیهم على ذلک أیضاً، فإن صلحوا ازددنا حبّاً وإن ضلّوا، ولم نکن مقصرین، لم یکن الأمر أشد علینا مما کان على نوح مع ابنه؟ هل ینبغی أن تکون توقعات الأهل من أبنائهم جلب المنافع لهم وتعویض عناء السنین وحسابات الربح والخسارة أم أن المسألة تدور مدار خدمة الدین والعمل بما أمر الله؛ حتى أن الأمر قد یصل إلى أن یربّی الإنسان ابنه مدة سبعة عشر سنة لیقدّمه إلى میدان الشهادة فی سبیل الله ونصرة دینه؟ هل أن تربیة الأهل لأولادهم تکلیف إلهی بغضّ النظر عن نتائجه أم أننا نملک السیطرة على نتائج التربیة أیضاً؟ إذا استطعنا أن نجیب عن هذه الاسئلة ونجعلها جزءاً من رؤیتنا وخلفیتنا التربویة فی التعاطی مع الأولاد فإن کثیراً من صعوبات التربیة والآمال الموهومة التی یعقدها الأهل على الأبناء ستزول. إن الأهل یشکّلون العامل الأهم والأساسی فی تربیة الاولاد وبنائهم ولکنهم لیسوا العامل الوحید. فهناک المدرسة والاصدقاء والبیئة والمحیط والثقافة وعوامل أخرى کلها تلعب أدواراً فی تکوین شخصیة المراهق. والأهل وإن کانوا یملکون قدرة توجیه تلک العوامل أو تخفیف وطأتها إلاّ أنهم لایملکون قدرة توجیه تلک العوامل أو تخفیف وطأتها إلاّ أنهم لایملکون إلغاء أثرها بالکامل، بل لیس مطلوباً منهم ذلک مالم یکن الاثر واضح الضرر والإذیة. ومحبة الأهل لأبنائهم ینبغی أن تنطلق من حیث أمرنا الدین وأئمته: فالأبناء هم جیل الغد الذی سیحمل رایة الدین وینشره ویزید من أتباعه، والآمال تعقد علیهم من هذا الجانب، ومحبتهم تزید کلما اقتربوا من هذه القناعة، والتربیة تدور مدار هذه الغایة. ولذلک نلاحظ فی الروایات التی تتحدث عن فضل الاولاد اشتراط الصلاح فیهم دائماً. قال رسول الله صلى الله علیه وآله وسلم: ((الولد الصالح ریحانة من ریاحین الجنة)) وقال صلى الله علیه وآله وسلم: ((من سعادة الرجل الولد الصالح)). والمسلم یحب أبناءه کما یحب أبناء غیره أیضاً لأنهم جمیعاً مسلمون، وکلهم اتباع هذا الدین والمذهب الحق. وإذا أردنا أن نختبر نفوسنا إن کان یخالطها حب النفس والانانیة فی محبة الاولاد فلنختبر محبتنا لأولاد الغیر من المؤمنین. فهل تحب ابن المجاهد الفلانی وتطلب مصلحته کما لو أنه ولدک وثمرة عمرک؟ هکذا یجب أن نکون. ینبغی أن ننطلق فی تربیتنا لأبنائنا من منطلق أنهم أبناء هذا الدین، ومن هنا تشتد المسؤولیة علینا وتزداد أهمیة التربیة. لأن أهدافها بالتالی تکبر لتصیر عالمیة وتخرج عن إطار الأهداف الشخصیة الغارقة فی حب الذات والنفس وامتداداتها واستمراریتها الموهومة من خلال الاولاد لتتحول إلى مشروع بناء انسان بحجم العالم فی أهدافه وطموحاته وقدراته. وهذا الإنسان لایکون فی أی حال من الأحوال ملکاً لنا، بل هو أمانة فی أعناقها. وواجبنا أن نسعى لرد هذه الأمانة کما یریدها الله ویحب.ومع ذلک فنحن لانملک ضمانة النتیجة، فقد یربّی الأهل ولدهم خیر تربیة لکنه یفسد باختیاره هو. وقد ینشأ طفل آخر فی أسرة کثیرة العقد والمشاکل، فیترکها شاباً متکامل الشخصیة سلیم الصفات. ولایمکن للأهل أن یکتشفوا بواطن أبنائهم بالکامل الاّ إذا کانوا فی مقام نفسی ومعنوی یخوّلهم ذلک ولکن هذا الأمر نادر الحصول. وعلیه یبقى الدعاء خیر رفیق فی رحلة العمر هذه ـ منذ نعومة أظافر الولد وحتى آخر عمره ـ إذ قد یجبر الکثیر من النواقص فی إعداد الأهل أو تلقّی الابناء، وقد یفتح أبواباً غیبیة على الابناء ما کان لیحققها الأهل فی تربیتهم الخاصة الاّ بصعوبة شدیدة. یروی الشیخ محمد تقی المجلسی والد العلامة المجلسی أنه کان قد فرغ من عبادته فی إحدى اللیالی وشعر حینها بأنه فی حالة تسمح بالدعاء وأن ما یدعوه سیستجاب حتماً. وفی نفس تلک اللحظة سمع صوت بکاء ولده محمد باقر فی سریره فقال: ((إلهی بحق محمد وآل محمد صلوات الله علیه إلاّ جعلت هذا الطفل مروّجاً لدینک وناشراً لأحکام رسولک، ووفقته لخیرک وتوفیقاتک المطلقة)) ویقال أن العلامة المجلسی وصل إلى ذلک المقام العلمی العالی وأنجز انجازاته الفریدة ببرکة ذلک الدعاء!
من دعاء الامام زین العابدین علیه السلام لولده: اللهم ومنّ علیّ ببقاء ولدی، وبإصلاحهم لی وبإمتاعی بهم. اللهم امدد لی فی أعمارهم، وزد لی فی آجالهم، وربّ لی صغیرهم، وقوّ لی ضعیفهم، وأصحّ لی أبدانهم وأدیانهم وأخلاقهم، وعافهم فی انفسهم وفی جوارحهم وفی کل ما عنیت به من أمرهم، وادرر لی وعلى یدی أرزاقهم، واجعلهم أبراراً أتقیاء بصراء سامعین مطیعین لک، ولأولیائک محبّین ناصحین، ولجمیع اعدائک معاندین ومبغضین. وکثیرة هی القصص التی تُحکى عن آثار الدعاء وبرکاته خاصة من الوالدین لأولادهما، فمن منا لم یسمع بأن ((دعاء الام مستجاب فی حق ولدها)). وهنا ینبغی أن یلتفت الأهل إلى أمر آخر قد یؤثر على مستقبل ولدهم من حیث لایشعرون، إنه شعور الرضا على الأولاد وعدم السخط علیهم فی أی حال. فعدم الرضا، خصوصاً من قبل الأم، قد یحرم الولد الکثیر من التوفیقات فی حیاته ویجعل عملیة بناء نفسه وإصلاح أخلاقه أکثر صعوبة وبطءً. هذا وإن کانت المسؤولیة فی هذا المجال ملقاة على عاتق الاولاد بشکل أساسی، إذ واجبهم البّر والاحسان وتحصیل الرضا. إلاّ أن الأهل یمکن أن یلعبوا دوراً مهماً أیضاً إذا انطلقوا فی تعاملهم مع أولادهم من الرحمة والشفقة والحرص علیهم دائماً. قال الصادق علیه السلام: ((إن الله لیرحم الرجل لشدة حبه ولده)). وإن ظهرت هذه الرحمة بصورة الغضب عندما یخطئ الابناء أحیاناً. فالمهم أن لایسیطر السخط على قلب الأب أو الأم تجاه ولدهما. قال الصادق علیه السلام أیضاً: ((بر الرجل بولده برّه بوالدیه)) وقال رسول الله صلى الله علیه وآله وسلم: ((رحم الله من أعان ولده على بره)) وقال صلوات الله علیه أیضاً: ((یا علی لعن الله والدین حملاً ولدهما على عقوقهما)). عزّة فرحات | ||
الإحصائيات مشاهدة: 2,518 |
||