دراسة فقهیة استدلالیة حول شرعیة تقلید المرأة | ||
دراسة فقهیة استدلالیة حول شرعیة تقلید المرأة القسم الاول حیدر حب الله تمهید تناول الفقه الإسلامی فی القرن الأخیر قضایا المرأة بطرق مختلفة، وقدّمت فی هذا المجال رؤى وتصوّرات، وبحجم تنوّع النتائج کانت هناک آلیات متنوعة أیضاً فی تناول الموضوع، وکانت الآلیات المدرسیة فی الاجتهاد الفقهی واحدةً من مناهج طَرْق قضایا المرأة، وقد قدمت هناک أیضاً نتائج مختلفة وجدیدة. بدوری، سأحاول فی هذه الدراسة ـ وبإیجاز ـ تناول موضوع إشکالی فی الثقافة الإسلامیة الیوم، وهو ثنائی المرأة والمرجعیة الإفتائیة الدینیة، ولما کان الموضوع منتمیاً إلى مقولة الفقه الإسلامی، وهدفت الدراسة إلى قراءته من هذه الزاویة، کان من الطبیعی أن نقترب ـ ولو بعض الشیء ـ من لغة هذا الفقه، لهذا أستمیح القارئ العذر فی استخدام المصطلحات التخصّصیة، اللهم إلا إذا کان من أهل الاختصاص أیضاً. نقطة البحث ومادة الموضوع، تشریح المکوّنات المسألة التی یدور هذا البحث حولها تتعلّق بقضایا الاجتهاد والتقلید فی الفقه الإسلامی وینبنی البحث هنا ـ تبعاً لذلک ـ على تجاوز بعض المسلّمات الفقهیة فی هذا المضمار، وحیث ذکرت فی المصادر الفقهیة شروط للمقلّد، استعرض الفقه واحداً من هذه الشروط، ألا وهو الذکورة، أی لابد فی مرجع التقلید من أن یکون ذکراً رجلاً فلا یمکن له أن یکون أنثى، مهما بلغ من العلم، لا من ناحیة عدم الاعتقاد بإمکان بلوغ المرأة مرتبة الاجتهاد على المعروف، بل من زاویة حقوقیة تمنعها من التصدی لمقام الإفتاء، کی یرجع إلیها الآخرون فی ذلک، وعلیه: أولاً: لا نزاع ـ معتدّ به ـ فی إمکانیة بلوغ المرأة مکانة الاجتهاد، تماماً کما هی الحال بالنسبة للرجال، والتاریخ شاهد على ذلک. ثانیاً: لا تتعلّق دراستنا بالموضوعات ذات الصلة، من قبیل تصدّی المرأة لمنصب إمامة المسلمین بمختلف معانیها، أو تصدیها منصب القضاء، أو إمامتها للجماعة أو مسألة الأخذ بشهادتها أو ما شابه ذلک، فهذه الموضوعات مختلفة من الزاویة الموضوعیة عن محور دراستنا، وإن کان البحث الاجتهادی ـ کما سنرى ـ یستعین بها فی الحصول على نتائج فقهیة داخل موضوعنا هنا. وسوف نلاحظ وجهة نظر تربط بین مسألة الإفتاء والولایة، وسنتطرق لها بإذن الله تعالى. ثالثاً: إن موضوعات مثل قضاء المرأة وولایتها وشهادتها وإمامتها للجماعة و.. سوف نفترضها فی هذه الدراسة مسلّمة، وإلا فنحن نعتقد بإمکان النقاش فی بعضها، لکننا سنتعامل معها بوصفها ثوابت مؤکّدة قدر الإمکان، وعلى سبیل المثال فقط نذکر أن الشیخ مرتضى الأنصاری (1281هـ) یصرّح فی کتاب القضاء والشهادات بأنه لا دلیل على اشتراط الذکورة فی القاضی بحیث تکون معتبرةً، عدا ادّعاء غیر واحدٍ من الفقهاء عدمَ الخلاف، وهذه شهادة لیست بالهیّنة،لکننا سنغض الطرف عن هذا الموضوع الآن وأمثاله. رابعاً: تستوعب مسألتنا تقلید المرأة المجتهدة نفسها من جهة، کما وتقلید غیرها لها من جهة ثانیة، فلیس البحث فی رجوع الغیر إلیها فحسب، بل حتى فی تقلیدها لنفسها على تقدیر بلوغها مرتبة الاجتهاد، وإن کان الجدل الفقهی مترکّزاً ـ بشکل أکبر ـ على المحور الأول، أی تقلید الغیر لها.
الرصد التاریخی للفقه الإسلامی تبدو المعطیات التاریخیة لهذا الموضوع ـ أی موضوع المرجعیة الافتائیة ـ غیر متکافئة بین الفقه الشیعی والفقه السنّی، فلم نجد ظهوراً جاداً له فی الفقه السنی مؤخراً، على خلاف الحال فی الفقه الشیعی، ولعل السبب فی ذلک یرجع إلى ظاهرة الانحسار النسبی لموضوعة التقلید نفسها فی الفقه السنی قیاساً بما علیه الحال فی الفقه الشیعی الإمامی، فلم یتم تناول مسألة المرجعیة سنیاً کما تلقاها الفکر الشیعی لتأخذ حیّزاً کبیراً من الحیاة الشیعیة مؤخّراً. على أیّة حال، یبدو أن الفقه السنی، أو غیر الإمامی، لم یشرط ـ بالاتفاق أو شبه الاتفاق على الأقل ـ منصب الإفتاء بالذکورة، فابن حزم الأندلسی (456هـ) یتعرّض فی «الإحکام فی أصول الأحکام» لشروط الاجتهاد والمُفتی والمستفتی، دون أن یشیر إطلاقاً إلى شرط الذکورة. وعلى المنوال نفسه، یعقد أبو إسحاق الشیرازی (476هـ) فی کتاب اللمع باباً خاصاً بشروط المُفتی والمستفتی دون أن یذکر شرط الذکورة، ولو على نحو القیل، وهکذا الحال مع الغزالی (505هـ) فی مباحث الاجتهاد والتقلید من کتاب المستصفى، إذ لم یکن هناک ـ وکذا فی فواتح الرحموت للأنصاری المطبوع على هامشه أی عین أو أثر لمسألة الذکورة فی الاجتهاد أو التقلید. وهکذا یصرّح الشیخ حسن العطار، صاحب الحاشیة المعروفة على جمع الجوامع للسبکی، بعدم اشتراط الذکورة فی المجتهد، لإمکان الاجتهاد لهنّ رغم نقص عقولهن، وإن کان کلامه فی الاجتهاد بالمدلول المطابقی. ولمزید من تأکید الموضوع فی المشهد السنی، ینقل ابن قدامة المقدسی (620هـ) فی المغنی أنه حکی عن ابن جریر الطبری قوله بجواز تولّی المرأة القضاء، ثم یجیب عنه ـ أی ابن قدامة ـ بأنه یجوز لها أن تکون مفتیةً لا قاضیة، مرسلاً أمر إفتائها إرسال الواضحات. وفی کتاب أدب المفتی والمستفتی لابن الصلاح الشهرزوری (643هـ) تصریح بعدم اشتراط الذکورة فی المفتی، وینصّ الإمام النووی (676هـ) فی المجموع ـ بعد ذکر جملة شروط فی المُفتی ـ على تساوی الرجل والمرأة فی الإفتاء، وعدم اشتراط الذکورة، مرسلاً الأمر ـ ککثیرین غیره ـ إرسال المسلّمات. وفی روضة الطالبین لمحیی الدین النووی (676هـ) لا ینصّ کما فی المجموع على عدم المنع عن إفتاء المرأة، لکنه یستعرض شروط المفتی ویبحث فیها، دون إشارة إلى الذکورة ونحوها. ویستعرض ابن قیم الجوزیة (751هـ) فی کتابه «أعلام الموقعین عن رب العالمین» ما یسمّیه: المکثرین والمتوسّطین والمقلّین فی الإفتاء، ناصّاً على أنّ منهم جمیعاً الرجال والنساء، ذاکراً أسامی بعض النساء فی کل فریق من الفرقاء الثلاثة منهنّ: عائشة، وأم سلمة، وأم عطیة، وصفیة، وحفصة، وحبیبة و.... ومن النصوص الحاسمة مؤخّراً، نص الموسوعة الفقهیّة الکویتیة، حیث ذکرت أنّ عدم اشتراط الذکورة فی المُفتی حکم اتفاقی. وهکذا نجد تتالیاً فی النصوص السنیّة ترفض هذا الشرط، ففی الفتاوى الهندیة (مذهب أبی حنیفة) أنه لا تشترط الذکورة فی المُفتی ولا الحریة، وفی کشاف القناع للبهوتی (1051هـ) أنّه تصحّ فتوى العبد والمرأة و..، وقد ذکر علاء الدین الحصفکی (1088هـ) فی «الدر المختار» عدم اشتراط الذکورة ولا الحریة ولا النطق فی الإفتاء. أما على صعید الفقه الشیعی الإمامی، فقد لاحظنا بعد مراجعة الموضوع فی المصادر الفقهیة أنّ أوّل من أثار هذا البحث کان الشهید الثانی (965هـ) فی مباحث القضاء من کتاب الروضة البهیة، مدعیاً الإجماع علیه ـ على خلاف فی تفسیر ادّعائه هذا ـ حیث قال: «وفی الغیبة ینفذ قضاء الفقیه الجامع لشرائط الإفتاء وهی: البلوغ، والعقل، والذکورة، والإیمان، والعدالة، وطهارة المولد إجماعاً، والکتابة، والحریة، والبصر على الأشهر..». وحیث لم یکن مبحث الاجتهاد والتقلید متداولاً ـ باستقلال ـ فی المصنّفات الفقهیة الإمامیة، کانت موضوعاته تدرس فی علم أصول الفقه، وأحیاناً فی بحث الأمر بالمعروف والنهی عن المنکر فی الفقه نفسه، وقد لاحظنا ثلاثة أنواع من المصادر الأصولیة التی عالجت هذا البحث هی: 1ـ المصادر التی تقع قبل حقبة الحرکة الإخباریّة، أی قبل القرن العاشر الهجری، وقد تعرّضت هذه الکتب الأصولیة فی مباحث الاجتهاد والتقلید منها لمباحث مثل التصویب والتخطئة، وتعریف حقیقة الاجتهاد، وبیان أن أحکام النبی| لیست اجتهادیة، وجواز أو عدم جواز التقلید فی أصول الدین، وبیان ما یتوقف علیه الاجتهاد من علوم و.. ولم نجد فی هذه المصادر ذکراً لشرط الرجولة فی المُفتی، رغم أنها أفردت بحثاً حمل عنوان: صفات أو صفة المُفتی والمستفتی، فلیراجع مثل «الذریعة إلى أصول الشریعة» للسید المرتضى (436هـ)، و«العدّة» للطوسی (460هـ)، ومعارج الأصول للمحقق الحلی (676هـ)، وتهذیب الوصول إلى علم الأصول، وکذلک مبادئ الوصول للعلامة الحلی (725هـ)، و... 2ـ المصادر التی جاءت فی إطار الصراع الإخباری ـ الأصولی، ولم نجد فیها حدیثاً عن هذا الموضوع إطلاقاً، فلتراجع مصنّفات الوحید البهبهانی (1205هـ) على سبیل المثال، مثل کتابی الفوائد الحائریة، والرسائل الأصولیة، للتأکّد من ذلک. 3ـ المصادر الأصولیة المتأخرة التی عالجت فی خاتمتها مباحث الاجتهاد والتقلید، وقد تعرّضت هناک لحقیقة الاجتهاد، وما یحتاج إلیه فیه، کما تعرّضت لشروط المقلّد ذاکرةً منها الحیاة، والأعلمیة، وتعرّضت أیضاً لمبحث الاجتهاد المتجزئ، کما تناولت مبحث التخطئة والتصویب و.. وهذا النوع من المصنّفات لم نجد فیه ذکراً لشرط الذکورة، رغم التعرّض لبعض شروط مرجع التقلید، کالحیاة والأعلمیة، فلیلحظ فی ذلک ما کتبه ـ على سبیل المثال ـ الشیخ حسن فی مقدّمة معالم الدین الأصولیة، والشیخ البهائی فی زبدة الأصول، والخراسانی فی کفایة الأصول، والمشکینی فی حواشی الکفایة، والعراقی فی مقالات الأصول، وکذلک فی نهایة الأفکار، والإصفهانی فی نهایة الدرایة، والخوئی فی مصباح الأصول و..، وقد شذّت بعض الکتب الأصولیة عن ذلک، فتعرّضت لموضوع الذکورة، وستظهر فی مطاوی هذا البحث، إن شاء الله تعالى. وقد لاحظنا أن هذا البحث لم یلقَ حضوراً فی المیدان الفقهی، رغم الإشارة السالفة للشهید الثانی فی الروضة، وإذا لقی حضوراً فهو ضعیف وبسیط جداً، حتى أن الشیخ الأنصاری (1281هـ) المعروف بتفریعاته الفقهیة یخصّص رسالةً للاجتهاد والتقلید، ویفصّل فیها شروط المقلَّد ولا یذکر عدا البلوغ والعقل والإیمان والاجتهاد، باحثاً فی الحیاة والأعلمیة، دون أن یشیر بتاتاً إلى فکرة الذکورة، وسوف نضیف لدى الحدیث عن دلیل الإجماع المقام على شرط الذکورة کلاماً آخر أیضاً یفید فی تکوین صورةٍ تاریخیة. وقد استمرّ الوضع على هذا المنوال إلى أن جاء السید محمد کاظم الیزدی (1337هـ) وذکر شرط الذکورة فی مرجع التقلید فی کتابه «العروة الوثقى»، وذلک بدایات القرن العشرین المیلادی، حیث تحوّل هذا الموضوع ـ تبعاً لتحوّل کتاب العروة إلى مادة تدور حولها الدراسات الفقهیة ـ إلى مادة تدرس فی الفقه الإمامی على نطاق واسع، وشاهدنا له حضوراً جاداً فی البحث الفقهی منذ تلک الفترة وحتى عصرنا الحاضر. ولرصد المشهد فی الفترة الأخیرة، لاحظنا وجود رأیین فی هذا المجال: الرأی الأول: وهو الرأی السائد مؤخّراً، ویتبنّى وجهة نظر صاحب العروة فی اشتراط الذکورة، ومن أنصار هذا الرأی ـ غیر الیزدی صاحب العروة ـ کل من المحقق الجواهری (1340هـ)، والفیروزآبادی (1345هـ)، والمیرزا النائینی (1355هـ)، والشیخ عبد الکریم الحائری (1355هـ)، والمحقق العراقی (1361هـ)، ومحمد حسین کاشف الغطاء (1373هـ) والسید حسین البروجردی (1380هـ)، وعبد الهادی الشیرازی (1382هـ)، والشیخ محمد رضا آل یاسین (1370هـ)، وآیة الله محمد الخوانساری (1405هـ)، والإمام الخمینی (1409هـ) والسید الخوئی (1413هـ)، والسید الکلبایکانی (1414هـ). وقد استمرّت هیمنة هذا الرأی على الموقف الفقهی حتى العصر الحاضر، حیث یذهب أکثر مراجع التقلید المعاصرین إلى هذا الشرط، کالسید السیستانی، والشیخ التبریزی، والوحید الخراسانی، والشیخ محمد تقی البهجت، والسید محمد سعید الطباطبائی الحکیم، و..، وقبل صاحب العروة، وجدنا تبنّی هذا الموقف من بعض الفقهاء من أمثال السید المجاهد محمد الطباطبائی (1242هـ) فی کتابه «مفاتیح الأصول». الرأی الثانی: وهو الرأی المخالف لما ساد فی الفترة الأخیرة بالخصوص، وقد ذهب إلیه المحقق الإصفهانی (1365هـ) فی رسالته فی الاجتهاد والتقلید، متوقّفاً فقط فی موضوع التسالم، والسید محسن الحکیم (1390هـ) فی المستمسک، وإن کانا لم یعلّقا على العروة فی شرط الذکورة، مما یعنی تبنّیهما هذا الرأی المخالف علمیاً لا فتوائیاً. وممن ذهب إلى هذا القول أیضاً السید رضا الصدر، والشیخ محمّد مهدی شمس الدین، کما مال إلیه العلامة السید محمد حسین فضل الله، وتبناه الشیخ محمد الجیلانی،وهو الظاهر من السید تقی القمی أیضاً فی مبانی منهاج الصالحین، ومن شریعتمدار الجزائری فی النور المبین. کانت هذه صورة موجزة للمشهد التاریخی والمعاصر فقهیاً من مسألة شرط الذکورة، وسوف نستعین بهذه الصورة فی الأبحاث القادمة إن شاء الله تعالى. | ||
الإحصائيات مشاهدة: 1,849 |
||