دور الإمام الخمینی التربوی للأمة | ||||
PDF (2503 K) | ||||
یُعَدّ الدور التربوی هو الأبرز فی فکر الإمام الخمینی، وذلک للرقی بالأمة والخروج بها من الظلمات إلى النور، ألا وهو تزکیة النفس , ذلک ما أکدته الأستاذة زینب إبراهیم فی دراستها عن الأسس التربویة لدى الإمام الخمینی فی مجلة المنطلق، فلقد کان حفظ الإسلام همّاً یسیطر على حیاة الإمام، وقد قدّم فی سبیل هذا الهدف عمره الشریف الذی أمضاه ما بین اضطهاد وتعذیب وسجن ونفی من بلد إلى آخر وحرب وأذى فی الأمة والنفس والأبناء الجسمانیین منهم والروحانیین، ولسان حاله یقول ما قاله سید الشهداء أبو عبد الله الحسین (ع): “هون ما نزل بی أنه بعین الله”، والإمام أکد فی وصیته هذا الأمر بصریح العبارة “فحفظ الإسلام هو أهم جمیع الواجبات، ولأجله جاهد وضحى غایة التضحیة الأنبیاء العظام من آدم (ع) إلى خاتم الأنبیاء صلى الله علیه وآله وسلم، لم یصدهم عن أداء هذه الفریضة الکبرى أی مانع، وتابع الأنبیاء على ذلک الصحابة المؤمنون وأئمة الإسلام علیهم صلوات الله أجمعین؛ سعوا بکامل الجهد، حتى التضحیة بالنفس من أجل القیام بهذا الواجب. لقد أیقن الإمام أن الإسلام دین التهذیب، والقرآن کتاب تربیة الإنسان، واتباع تعالیمه والتخلق بأخلاقه یعنی الوصول بالإنسان إلى منتهى کماله، وأن الأنبیاء الکرام (ع) إنما جاءوا لیهدوا الناس إلى الطریق الذی یصل إلى ذلک الکمال، ولیتمموا مکارم الأخلاق، ولیزکوا النفس، وقد ورد فی محکم الکتاب المبین {هو الذی بعث فی الأمیین رسولاً منهم یتلو علیهم آیاته ویزکیهم}، وجاء فی الحدیث الشریف: “إنما بعثت لأتمم مکارم الأخلاق”، کما وأیقن الإمام (طیب الله ثراه) أن تربیة النفوس وتزکیتها أهم طریق لحفظ الإسلام؛ إذ أن التزکیة تعنی تحول الإنسان إلى قرآن مشخص، وبها یحفظ الإسلام، لیس فی الکتب والمقالات بل فی النفوس والقلوب، ولولا هذا الأمر لما عدّه الشارع هدف الأنبیاء. لقد انکشف هذا السر للإمام (رض) فقال: “مِن أهم وأسمى العلوم التی یجب تعمیم تدریسها ودراستها هی العلوم المعنویة الإسلامیة: کعلم الأخلاق وتهذیب النفس والسیر والسلوک إلى الله”، ولَمّا تکشف لسماحته الأمر جعله قبلة یمم الوجه شطرها، فعرج إلى أعلى مراتب العرفان، کما وجه الأمة نحوها. وقد جاء فی الکتاب الکریم {إن الله لا یغیر ما بقوم حتى یغیروا ما بأنفسهم}، فتغییر ما بالنفس وتهذیبها شرط لازم لتغیر حال الأمة ورقیها، لذا نجد أنه ما من نداء أو خطاب وجهه الإمام للأمة إلا وفیه کلام أو إشارة إلى التزکیة وضرورة التربیة وتعلم علم الأخلاق؛ فهذا الإمام یقول: “التقوى.. التقوى.. تزکیة النفس.. الجهاد مع النفس.. زکوا أنفسکم جمیعاً.. تعلموا من التعالیم العالیة للإسلام.. الإسلام یصنع الإنسان، والأجانب والقوى العظمى یخشون الإنسان، ویقاومون الإسلام لأنه مدرسة لتربیة الإنسان”. الإمام (رض) بمجاهداته الروحیة وریاضاته النفسیة وإخلاصه وصفائه وعبودیته لله سبحانه وتعالى أصبح “قطباً” ومعلماً، والأمة التی وثقت به تحولت إلى “مرید” أسلمت له القیادة لتسلک بفضل تعالیمه وإرشاداته الطریق المستقیم، وکثیراً ما کان الإمام یردد أن من یجعل الإسلام هدفاً لحیاته ینبغی له أن یقاوم الانحرافات والأخلاق السیئة والذمیمة وإبدالها بأخلاق حسنة وتحویل الانحرافات إلى استقامة. ولکن ما هی نقطة البدء والانطلاق؟ ما هی الجهة التی یجب التوجه إلیها أوّلاً؟ یجیب الإمام على السؤال المطروح بقوله: “على الإنسان أن یبدأ من نفسه فیلاحظ انحرافاته الشخصیة، لا شک أن کل إنسان یرى فی نفسه عیوباً، وقلیل من لا یرى عیب نفسه، وهذا أحد العیوب، على الإنسان أن یتربى وأن تکون تربیته بتزکیة نفسه، على الإنسان أن یبدأ من نفسه ثم من عائلته، فابدؤوا من عوائلکم لتصلوا إلى الذین فی الخارج”. إذن.. نقطة البدء والجهة الأولى التی یجب أن نتجه لتهذیبها وتزکیتها - کما قال مربی العصر - هی الذات؛ إن إصلاح الذات مقدمة ضروریة لإصلاح ما فی الخارج، والإمام (رض) تابع حرکة المنهج هذه فی توجهه إلى موضوعات التربیة، فبدأ بشخصه الکریم ونفسه فهذبها وأحسن تهذیبها وتزکیتها، ورأى أن من یرید أن یتصدى لأمر فلا بد أن تکون أقواله وأفعاله وتقریراته موافقةً لما یدعو إلیه، وإلا فقد مصداقیته کما أوضح (رض): “فعندما أدعوکم أنا إلى ترک عمل ما أو القیام بعمل ما لا یکون لهذا العمل أی تأثیر إذا کنت أنا فاسداً”، ثم إنه یستحیل على إنسان غیر مربٍّ أن یتصدى لتربیة الآخرین وتزکیتهم؛ إذ أن فاقد الشیء لا یعطیه. إذن.. فموضوع التربیة الأول هو الذات کما مر، یلیه تربیة العائلة، وقد استشهد الإمام على ضرورة هذا النهج فی التوجه بقوله: “عندما بعث بالرسالة (النبی صلى الله علیه وآله وسلم) بدأ التغییر من بیته، فدعا السیدة خدیجة، وهی قبلت بذلک، والإمام علی (ع) - والذی کان طفلاً یومذاک - قبل الدعوة أیضاً، ثم جمع الرسول أقرباءه ودعاهم للرسالة” حسب الأمر الإلهی، والإمام تابع الأمر الإلهی الموجه إلى جده رسول الله (ص) وتوجه إلى عائلته مربیاً ومهذباً، فسقاهم حب الإسلام وبذر فیهم بذور الأخلاق الإسلامیة، لذا نرى أنهم نساءً ورجالاً قدَّموا الأنفس والأموال وعانوا النفی والتعذیب من أجل الإسلام والأمة. ثم إن الإمام - وحتى آخِر أیام حیاته - کان یؤکد ویشدد النصح لعائلته للتمسک بالأخلاق الإسلامیة العالیة، وبهذا الخصوص ذکرت السیدة مصطفوی - ابنة الإمام - للوفود النسائیة التی شارکت فی أربعین الإمام - أعلى الله مقامه - أن الإمام جمع عائلته قبل یومین من وفاته وقال لهم: “إن الحیاة طریق صعب، فأرجو ألاّ تقعوا بمعصیة.. أوصیکم بعدم الاستغابة وعدم السخریة، ولا تحتقروا أحداً.. لا تحزنوا من بعدی، واصبروا على ذلک”. ثم إننی سمعت زوجة الإمام (رض) عندما زرنا بیت الإمام فی الذکرى العاشرة لانتصار الثورة الإسلامیة فی إیران تقول: “إن الإمام یوصینا دائماً بالمحافظة على الصلاة”، حینها تعجبت للأمر، وقلت إن محافظة أهل بیت الإمام على الصلاة أمر مؤکد، فلماذا هذه التوصیة؟! لعل فی الأمر خطأ فی الترجمة، إلا أننی أدرکت فیما بعد أن وصیة الإمام هی هذه ولیس من خطأ فی الترجمة، فالصلاة کما یراها الإمام معراج المؤمن، والصلاة تنهى عن الفحشاء والمنکر، وانطلاقاً من هذه الأهمیة للصلاة ودورها فی حرکة الإنسان باتجاه خالقه وتربیته أوصى بها الإمام (رض). إذن مما مر سابقاً نلاحظ أن الوصیة الأخیرة التی أوصى بها الإمام عائلته هی وصیة أخلاقیة، الأمر الذی یؤکد ما ذهبنا إلیه من أن تربیة النفس هی الطریق الأقوم لحفظ الإسلام. أمّا الجهة أو الموضوع الثالث للتربیة والتزکیة الذی توجه إلیه الإمام (رض) کان الأمة الإسلامیة بشکل عام والشعب الإیرانی بشکل خاص، ورکز على ضرورة تربیة وتزکیة نفوس أولئک الذین یتولون قیادة الأمة؛ لأن خطر انحرافهم أشد وأعظم من خطر انحراف الأشخاص العادیین، وصلاح هؤلاء وتربیتهم تعمّ برکتها الجمیع. بعدما عرفنا التدرج فی الجهاد المتوجه إلیها فی عملیة التربیة یطالعنا السؤال التالی: ما هی الخطوات العملیة التی اتبعها الإمام (رض) فی مسیرة التهذیب هذه بحیث استطاع أن ینقل أمة بمعظمها منتشرة فی کل بقاع الأرض من ظلام الجاهلیة إلى نور الإسلام ومن حضیض المادة إلى قدس الروح والمعنى؟ طبعاً لا یمکن للإنسان أن یصل إلى أی هدف فی حیاته بشکل عشوائی ودون برمجة وتخطیط، ولیس للسائر فی ظلمة اللیل أن یهتدی إلى طریقه دون ضوء ولا یتعثر، کما ویستحیل على الإنسان أن یصبح طبیباً دون أن یتعلّم فن الطب ویتمرس به.. إن کل علم بحاجة إلى معلم مِن أخس العلوم إلى أشرفها، فکیف بعلم أرسلت الرسل من أجله أی علم الأخلاق؟! قال الإمام: “إن کل علم فی الدنیا وصنعته لا بدّ لهما من أستاذ وممارسة، وإن الإنسان الذی یسیر على غیر هدى ودون تخطیط لا یمکن أن یصبح متخصصاً فی أی مجال.. کیف نؤمن بهذا ونؤمن فی نفس الوقت بأن علم الأخلاق - الذی هو هدف إرسال الأنبیاء والذی هو من أدق العلوم - لیس بحاجة إلى التعلم والتعلیم؟! “. وبناءً على ما تقدم رأى الإمام أنه لا بدّ مِن وضع مناهج لدراسة هذا العلم وإقامة جلسات الوعظ والإرشاد وتدریس علم الأخلاق بحیث تشمل هذه الدروس کل فئات الشعب ویتحول المجتمع والأمة بل والعالم إلى جماعتین: جماعة الأساتذة والمعلمین وجماعة الطلبة والمتعلمین، ومن أجل إتمام هذا الغرض دعا العلماء وطلبة العلوم الدینیة ومدرسی التربیة الإسلامیة والمعلمین وکل من له علاقة بالتربیة والتعلیم لتزکیة نفوسهم کمقدمة لتزکیة وتربیة الآخرین، کما ودعا الإمام (رض) کل من یرید تربیة نفسه وتزکیتها لوضع برنامج لهذه الغایة ومتابعة دروس الأخلاق الشفویة منها والمکتوبة، کما وأکد على ضرورة الاستفادة من سیر الأنبیاء العظام والأئمة الأطهار والعلماء العاملین الأتقیاء؛ فإن نهجهم وسیرتهم بحد ذاتهما مدرسة متکاملة فی الأخلاق وجهاد النفس والخلوص فی العبودیة لله. وبعد أن وضع الإمام الخطوط العامة لحرکة دراسة علم الأخلاق شرع بالتصدی لعملیة التعلیم، متخذاً لذلک أسالیب متعددة، فسیرة الإمام - مثلاً - وسیلة تربویة قائمة بحد ذاتها، إلاّ أن البحث لا یتسع للکلام عنها، وسوف نتناول فی هذه الدراسة أسلوباً واحداً من أسالیب الإمام التعلیمیة هو أسلوب الوعظ والإرشاد، وذلک من خلال الخطب التی کان یتوجه بها إلى الأمة فی المناسبات المختلفة وبعض المحاضرات التی ألقاها على طلاب الحوزة العلمیة فی منفاه فی النجف الأشرف. . فکیف خاطب الإمام الأمة؟ وماذا علّمها؟ سبقت الإشارة إلى أن الإمام شدّد على ضرورة تعلّم علم الأخلاق وتهذیب النفس، إلاّ أن درسه الأول کان تحذیراً للمتعلمین والخاضعین لعملیة التربیة والتزکیة من إبقاء هذه المعلومات فی الذهن وتحویلها خزیناً للأدمغة؛ إذ لا بدّ أن تکون القلوب أوعیة العلم، أی لا بدّ أن یتحول هذا العلم والخزین إلى سلوک وعمل وممارسة تظهر فی حیاة الفرد الیومیة؛ لأن العلم بدون عمل هلاک للإنسان، بل قد یتحول العلم حجاباً بین الفرد وربه وحائلاً دون الوصول إلى طریق الهدایة، وذلک عندما یصیبه الغرور والعجب بما یملکه من علم، أو یستخدم هذا العلم فی غیر مرضاة الله سبحانه وتعالى، ثم إنه لیس العلم وحده الذی قد یکون حجاباً بین الفرد وخالقه وسدّاً حاجزاً یحول بینه وبین الهدایة وبلوغ مرتبة الإنسانیة العالیة التی أرادها له الباری عزّ وجلّ؛ فقد یکون أی شیء یصل إلیه الإنسان أو یحوزه مانعاً من تحقیق الهدف إلاّ من تهذب بالتهذب الإسلامی وتربى بتربیة دین التوحید، وبهذا الصدد یلفت الإمام(رض) إلى أنه “عندما یحصل الإنسان على شیء یحصل لدیه الغرور ویرى نفسه عظیماً، والإسلام جاء لیسحق هذا الغرور، وما دام الإنسان أنانیّاً لا یتمکن من الوصول إلى طریق الهدایة، ففی البدایة یجب أن یسحق هذه الشهوات وهواه النفسی”، وتابع قائلاً: “إن الحروب التی حدثت بین الأنبیاء وغیرهم فی الدنیا لیست سوى لأنهم کانوا یریدون الحد من جماح الناس وأن یسحقوا هذه الأنانیات”. الإمام من خلال تعالیمه للأمة شخص بیَّن ما یمکن أن یلوّث النفس ویکدرها ویحرفها عن فطرتها الأصلیة، وذکرها مراراً وتکراراً، کما وبیَّن نتائجها الوخیمة على مستوى الفرد والأمة فی الدنیا والآخرة، ومن هذه الکدورات ذکر الإمام(رض): الغرور، الکبر، العجب، النمیمة، الغیبة، حب الذات والدنیا، الانقیاد للشهوات، وغیرها من الأمور. وقد عدّ الإمام (رض) هذه الأمور من الأمراض الروحیة الخطیرة التی تقضی على الإنسان وتحوِّل الناس إلى وحوش کاسرة وبهائم، وتؤدی بالتالی إلى الخسران المبین، ففی حدیثه للمربین یقول: “حذروهم (الطلاب) من الصفات الدنیئة التی توجب سقوط الإنسان فی الهاویة: کحب الجاه والمال والمقام، ومن کل العوائق التی تمنع التقدم البشری، وعلموهم أن الإنسان ما دام منکبّاً على شهوات الطبیعة فإنه لیس إنساناً، وإن هؤلاء الذین همّهم المکاسب الدنیویة والعیش الهنیء إنما هم کالبهیمة المربوطة همّها علفها، وأخرجوهم من عبودیة غیر الله إلى عبودیة الله”. إن هؤلاء الذین همّهم الأمور الدنیویة الخسیسة والذین أعمالهم لا تنسجم مع الروح - وإنما جمیعها فی خدمة الجسد وتأمین ملذاته - هم کما یقول الإمام: مصداق قوله تعالى {إن الإنسان لفی خسر}، أمّا المؤمنون الذین عملوا على تهذیب أنفسهم وتأدیبها وتکون أعمالهم منسجمة مع الروح ومع ما أمر به المولى وخالصة لوجهه فهم المستثنون فی الآیة {إلاّ الذین آمنوا وعملوا الصالحات وتواصوا بالحق وتواصوا بالصبر}. لقد عَدّ الإمام الذنوب أمراضاً روحیة خطیرة، بل هی عنده من أخطر الأمراض التی یصاب بها الإنسان، والمشکلة مع هذه الأمراض أن المصاب بها لا یلتفت إلیها ولا یسعى لمداواتها ومعالجتها، فی الوقت الذی یستنفر عدداً کبیراً من الأطباء إذا ما توهم إصابته بمرض جسدی على حد تعبیر الإمام، ویردّ هذا المعلم الجلیل السبب فی عدم المسارعة لعلاج أمراض الروح إلى عدم الشعور بألم یصاحبها، تماماً کما الأمراض الخبیثة؛ إذ أنها عادةً غیر مصحوبة بالألم، وصاحبها لا یشعر بها إلاّ بعد فوات الأوان، وکذلک الأمر بالنسبة لأمراض الروح؛ فالإنسان لا یشعر بها إلاّ بعد انقضاء العمر، عندها یدرک مریض الروح معنى قوله تعالى {ووُضِع الکتاب فترى المجرمین مشفقین مما فیه ویقولون یا ویلتنا مالِ هذا الکتاب لا یغادر صغیرة ولا کبیرة إلاّ أحصاها ووجدوا ما عملوا حاضراً ولا یظلم ربک أحدا}. إن الإمام الذی امتلأ قلبه حبّاً لله یذکّر الأمة بلقاء الله ویحذرها مغبة الأعمال السیئة والذنوب، بقوله: “أنتم إذا لم تصلحوا أنفسکم - لا سمح الله - وخرجتم من الدنیا بقلوب سوداء، وعیون وآذان وألسنة ملوثة بالذنوب، فکیف ستقابلون الله؟! هذه الأمانات الإلهیة التی استودعکم الله إیاها بمنتهى الطهارة والبراءة کیف ستردّونها بمنتهى القذارة والرذالة؟! هذه العین، وهذه الأذن اللتان هما فی اختیارکم، وهذه الید وهذا اللسان هما فی سلطتکم، هذه الأعضاء والجوارح التی تعیشون بها کلها أمانات الله العزیز المتعال، وقد أعطاکم إیاها بتمام السلامة والطهارة، فإذا ابتلیت بالمعاصی فإنها تتلوث وتتقذر، وآنذاک عندما تریدون إعادة هذه الأمانة قد تُسألون: أهکذا تُحفظ الأمانة؟! هل سلمناکم هذه الأمانات هکذا؟! القلب، العین، وسائر الأعضاء والجوارح التی جعلناها فی اختیارکم، هل کانت هکذا قذرة وملوثة؟! بماذا ستجیبون على هذه الأسئلة؟! وکیف ستواجهون الله الذی خنتم أماناته بهذا الوجه من الخیانة؟! “. ویذهب الإمام إلى أن البشر إن کانوا غافلین عن أمراض الروح لأنها غیر مصحوبة بالألم - بل غالباً ما تکون مصحوبة باللذة - فهل هم غافلون عن تحذیرات وتنبیهات الله - سبحانه وتعالى - والأنبیاء والأئمة (ع) والعلماء الذین أکثروا من الکلام عن هذه الذنوب وعن الهاویة التی تجرّ إلیها؟! إن الله - سبحانه وتعالى - لم یترک خلقه یتخبط فی معرفة الطریق، وتمییز الحق من الباطل، بل أنار لهم الطریق فأنزل لهم الکتب السماویة بواسطة الأنبیاء، إضافة إلى العدید من المنبهات والموقظات، إلاّ أن الإنسان - هذا الجاهل الظالم، صاحب النفس الفرعونیة - ما رأى إلاّ نفسه فأخلد إلى الأرض واتبع هواه، وغرته الدنیا بغرورها فانغمس بملذاتها الفانیة البائدة، وأعرض عن ربه ونسی لقاءه والیوم الآخِر، معزیاً النفس بما یلوکه لسانه من ألفاظ التوبة، غیر أن: “التوبة لا تتحقق بلفظ أتوب إلى الله، بل إنها تتوقف على الندم والعزم على ترک الذنب”. لا یمکن للنفس - برأی الإمام - أن تتزکى وتقبل نور الهدایة ما دام الإنسان غارقاً فی عبودیته لذاته والزعامة والمال والجاه. .. إلخ، لا یمکن أن یصبح الفرد إنساناً ما لم یخرج من هذه العبودیات إلى عبودیة الله ویکون حبه ظل محبة الله وبغضه فی الله، وإلاّ أدى به غرقه فی غیر الله وحبه وعبودیته له إلى أسفل سافلین. ویشرح الإمام(رض) الأمر بقوله: “إذا لم یهذب (الإنسان) نفسه وإذا لم یعرض عن الدنیا ویخرجها من قلبه فیُخشى أن یترک الدنیا وقلبه مملوء بالحقد على الله وعلى أولیائه”. جاء فی الحدیث أن الإنسان یولد على الفطرة والصراط المستقیم والتوحید والإسلام، والإمام یشترط نموّ هذه الفطرة وتفتحها بالتهذیب وإلاّ ستکون عرضة للفساد، فقلب الإنسان یشبهه الإمام بالمرآة، وهو صاف ومضیء، ولکنه یتکدر ویتغبش نتیجة التکالب على الدنیا وکثرة المعاصی، والمشکلة أن الإنسان یستصغر المعاصی ولا یلتفت إلى من یعصی: “لا تستصغروا هذه الذنوب البسیطة؛ فإن عاقبتها خطیرة؛ لأن الإنسان الذی یمارس الذنوب تکون عاقبته عند الموت أن یکذب بالله وینکر آیاته؛ قال تعالى {ثم کان عاقبة الذین أساؤوا السوأى أن کذبوا بآیات الله وکانوا بها یستهزئون}، وهذه النتیجة السیئة لا تحصل دفعة واحدة بل بالتدریج.. نظرة محرمة من هنا، وکلمة غیبة من هناک، وإهانة لإنسان مسلم من هنالک.. هذه المعاصی کلها تغرس فی قلب الإنسان فتنمو وتسیطر علیه وتحوله إلى قلب أسود مظلم، وتَحُول بینه وبین معرفة الله إلى أن تکون النتیجة أن ینکر الحقائق الإیمانیة ویکذب بآیات الله تعالى”. ویتساءل الإمام: لماذا ترتکبون هذه الذنوب؟! لماذا النمیمة والغیبة والحقد والکراهیة والحسد والخلافات خصوصاً فی مجتمعات المسلمین؟! إن السبب الأول لهذه الذنوب جمیعاً هو التعلق بالدنیا، وهی مظاهر لها؛ لأن الأمور الأخرویة “لا صراع علیها ولا اختلاف، وأهل الآخرة المترفعون عن سفاسف الدنیا یعیشون مع بعضهم بمحبة وصفاء، قلوبهم مملوءة بحب الله وعبادة الله، فمحبة الله سبب طبیعی لحب عباد الله المؤمنین، ومحبة عباد الله ظل محبة الله سبحانه”. ویذهب الإمام إلى أن الذنوب والأعمال القبیحة لا تؤجج نیران الدنیا فقط؛ بل هی نفسها التی تؤجج نار جهنم، وإن حرکة جهنم مشروطة بعمل الإنسان نفسه، فإذا لم یفعل الإنسان ما یحرک نار جهنم ویؤججها یمکنه اجتیاز الصراط دون أن تتلقفه النار. أمّا السبب الثانی لهذه الذنوب: فهو عدم احتمال وجود الآخرة - حسب رأی الإمام - وبطلان الثواب والعقاب، وعدم الإیمان العملی بوجود الله؛ لأن المؤمن الموقن بوجود الله ووجود جهنم لا یتجرأ على القیام بأی عمل یسخط الله ویغضبه؛ لأنه یشعر عند أی حرکة یقوم بها أنه بمحضر الله وعلى مرأى منه، وهذا مانع له من ارتکاب أی عمل شنیع، أمّا نحن فنتجرأ على الله ونتصرف فی محضره بکل وقاحة؛ فنغتاب المؤمنین ونظلم العباد ونستعمل کل الأمانات التی استودعها الله عندنا فی أذیة النفس والآخرین، وبهذا الصدد یقول الإمام(قده): “إن الإنسان لیمتنع عن ارتکاب الذنب لوجود طفل ممیز، إنه یمتنع عن کشف عورته أمامه، فکیف یا ترى یکشف عوراته بحضور الله سبحانه دون أیّ تورع أو خجل؟! السبب فی ذلک هو الإیمان بوجود الطفل، ولذلک یجتنب الإنسان الذنب أمامه، وعدم الإیمان بوجود الله وحضوره؛ لأنه لو کان مؤمناً بحضور الله لاجتنب المعاصی وتورع عن ارتکاب المحرمات”. ثم یذهب الإمام أبعد من ذلک فیقول: إن الإنسان الذی یرتکب المعاصی والذنوب لیس فقط غیر مؤمن ومتیقن من وجود الله وصحة الإخبارات التی وردت فی القرآن الکریم عن وعده ووعیده؛ بل أکثر من ذلک هذا الإنسان لا یحتمل وجوده، وإلاّ لو احتمل لقاء ربه لتفکر فی عمله وراقب أعماله واجتنب المعاصی کما یجتنب المرور فی طریق یحتمل الخطر على حیاته فیه.. قال الإمام بهذا الشأن: “إنکم لو احتملتم أن فی طریق تریدون قطعه حیواناً مفترساً یمکن أن یهجم علیکم أو قاطع طریق یمکن أن یعترض طریقکم سوف تجتنبون ذلک الطریق حتماً، فهل من الممکن أن یحتمل إنسان وجود جهنم والخلود فی نارها بکل صفاتها المذکورة فی القرآن الکریم ومع ذلک یصدر منه ما لا یرضی الله سبحانه وتعالى؟! هل من الممکن أن تصدر المعصیة من شخص معتقد بحضور الله ومراقبته للعباد؟! “. لذا علینا جمیعاً أن ننتبه ونتیقظ، ونخرج من جمیع العبودیات إلى عبودیة الله، وننبذ الأعمال السیئة، ونسارع فی محاسبة النفس، ونعمل العمل الصالح قبل فوات الأوان وحضور أعمالنا أمامنا، وإلاّ سنکون من القائلین کما جاء فی القرآن الکریم﴿رَبِّ ارْجِعُونِ* لَعَلِّی أَعْمَلُ صَالِحًا فِیمَا تَرَکْتُ﴾، فیأتی جواب الباری ﴿کَلَّا إِنَّهَا کَلِمَةٌ هُوَ قَائِلُهَا وَمِنْ وَرَائِهِمْ بَرْزَخٌ إِلَىٰ یَوْمِ یُبْعَثُونَ﴾.
| ||||
الإحصائيات مشاهدة: 216 تنزیل PDF: 111 |
||||