دیوان الامام الخمینی مناخات عرفانیة ومفاهیم فلسفیة | ||||
PDF (1062 K) | ||||
لو کان لنا أن نعرض الى واحدة من صفحات الحضارة المشرقیة لبدت لنا إیران بوصفها أرض الشعراء والعرفاء. یدل على ذلک ما لا حصر له من کتب تاریخ الأدب والمدونات العرفانیة المختزنة فی امهات المکتبات العالمیة. کما یشیر الى هذا الأمر واقع تاریخی مؤدّاه أن کثیراً من الأبحاث الفلسفیة والعرفانیة مدین فی ظهوره المعرفی الى الشعر. فعلى سبیل المثال تحضرنا منظومة السبزواری التی لا یمکن عدها نتاجاً أدبیاً بقدر ما هی شرح وتظهیر لنظام فلسفی اسلامی متکامل کان أطلقه الفیلسوف والحکیم الإلهی صدر الدین الشیرازی المعروف بـ «ملا صدرا» تحت عنوان «الحکمة المتعالیة فی الأسفار العقلیة الأربعة». کذلک فإن أی باحث لا یستطیع أن یرى الى شعر مولانا جلال الدین الرومی مقتصراً على الناحیة الأدبیة من دون أن یلحظ أبعاده العرفانیة والفلسفیة. وأما الإقبال الشدید الیوم على ترجمات قصائد مولانا فی شتى أنحاء العالم فهو أمرٌ عائدٌ بالقطع لما تنطوی علیه من مضامین عرفانیة وإنسانیة عمیقة المعانی والدلالات. أن ما تجدر الإشارة إلیه فی هذا المجال، هو أننا قلیلاً ما نجد بین علماء الأخلاق والمفکرین من یمتلک بعداً سیاسیاً واجتماعیاً بالإضافة الى الأبعاد المعنویة العالیة والسلوک الأصیل. وهو الأمر الذی سنجده بوضوح فی المنهج المعرفی الجامع للإمام الخمینی. فقد دلت أعماله وکتاباته على الجمع الخلاّق بین الحکمة النظریة والعلوم العقلیة والنقلیة ناهیک عن أعماله الإبداعیة فی مجال العرفان والشعر والأدب. ومع أن الامام الخمینی یمتلک بعداً سیاسیاً واجتماعیاً، إلا أنه فی سیره العرفانی وسلوکه بدا بعیداً عن التعلق بهذا العالم. لذلک تسنى له أن یصبح رمزاً للعرفاء الواصلین وتمام السالکین وأصحاب القلوب الوالهة فی زماننا المعاصر. ولهذا یمکن القول إن من الخصائص التی بقیت مجهولة عن الإمام هو الوجه العرفانی والأدبی لشخصیته. قد یُفاجَأ القارئ بأن الامام الخمینی الذی قاد ثورة شعبیة شاملة فی ایران کان یکتب الشعر على الرغم من انشغاله بالسیاسة قبل المنفى وبعد العودة الى بلاده. فلقد أهتم الإمام بالشعر، اضافة الى رسالته العملیة وبحوثه الفقهیة التی نال علیها درجة الاجتهاد، وتتجاوز السبعین مؤلفاً. کان شاعراً شأنه شأن کبار شعراء التصوف، یتغزل بالمحبوب ویرجو وصاله. ومن الواضح تماما أن هذا المحبوب لم یکن سوى الرب تعالى، وان التفاصیل الجسدیة التی یجری التغزل بها إن هی إلا رموز مقصودة؛ وأن الاماکن التی یتردد ذکرها فی اشعاره انما یراد بها عالم اللاهوت. کان شغف الإمام الخمینی بکتابة القصیدة الصوفیة جلیاً منذ شبابه. والأشعار التی سجلت باسمه فی الدیوان هی من الأشعار الناضجة المشحونة بالمناخات العرفانیة والمفاهیم الفلسفیة. إلا أن ما یبدو بوضوح، هو انه لم تتوفر فسحة أوسع لأنتشار أعماله الشعریة الاّ بُعید وفاته. ولنا ان نفترض ان مشاغله ومهامه الجسیمة، بحکم کونه مؤسس الجمهوریة الأسلامیة، وقائدها ومرشدها.. . قد جعل تلک القصائد العذبة تنأى إلى الظل طویلاً. بید انه فی السنوات الأخیرة أخذت تتلمس طریقها الى القرّاء، وتترجم الى لغات متعددة. فقد تَرجم بعضها الى اللغتین الصینیة والهندیة، کما تَرجمت مئة قصیدة غزلیة الى الأوزبکیة، فضلاً عن دیوانه المعروف بـ (دیوان الأمام الخمینی) الذی ترجم الى العربیة فی مصر. تأثره بالمیراث الصوفی ما من شک فی تأثر الإمام الخمینی بشعراء الصوفیة الکبار. ولقد کان تأثیر الشاعر الإیرانی شمس الدین حافظ الشیرازی حاضراً فی قصائده، حیث أورد تفسیراً لبعض مصطلحاتهم ومنها «الخمر» التی یراد بها - حسب قوله - غلبة الشوق. وعلى ما یبیِّن فی کثیر من کتاباته انه (حین یغلب الشوق والوجد والحال، بسبب تجلی المحبوب الحقیقی وقت غلبة المحبة على قلب السالک، یفنى السالک ویغیب عن وعیه). وأن ألفاظاً مثل الکأس والقدح والحانة والخمارة تشیر إلى ابتغاء المحبوب ومشاهدة الأنوار الغیبیة فی قلب السالک. وهو ما نجده فی قصیدتی «حسن الختام» و«عید النیروز». ومن إحداهما نقتطف هذا المقطع الذی یدنو الى حد بعید مع مناخات الشاعر الصوفی الکبیر عمر الخیام: لقد ناء الصوفی والعارف من هذه البیداء فاحتسِ الخمر من المطرب فهو هادیک إلى الصفاء وإن أرشدتنی إلى باب شیخ الحانة..!!! فلأسلکنّ الطریق إلیه لا بقدمی بل برأسی وروحی ورغم تکرار عبارات العشق والحب فی قصائد الامام، فإن روح المعلم والمربی والمرشد تبقى لها الغلبة علیها. تعلیقاً على ذلک، کتب الدکتور علاء الدین منصور فی مقدمته للدیوان المنقول الى العربیة ان الامام لم یکن لیهتم بأن یکون شاعراً محلقاً یمتهنُ الشعر فناً ومذهباً ومکسباً، بل کان الشعر بالنسبة إلیه مجرد معبر لإجلاء أفکاره الصوفیة والعرفانیة بعد خلوته لشهود الله وذکره والتفکر فی اسرار الکون. وهکذا وجد فی الشعر راحة وسلوى روحیة بعد فراغه من مهمات الامامة، وبلاءات السیاسة ونکبات الرئاسة، خاصة انه کان ینظم الشعر بسلاسة دونما تعمق فی صیاغته وصناعته. ولذا فقد جاء شعره سهلاً بسیطاً مع عذوبته وجرسه وموسیقاه. وهناک من النقاد والباحثین من رأى ان شعر الإمام الخمینی بجملته هو شعر صوفی عرفانی، وهو حلقة وسطى بین الشعر المتعمق العرفانی وذاک السهل المبسَّط. وبهذا استطاع ان ینفذ الى قلب القارئ العادی. وهو بأسلوبه هذا یفارق أسلوبیة العدید من الشعراء الصوفیین الذین یستغرقون فی عالم الرموز حتى یکاد النص بمجمله یستغلق على الفهم. فی حین ان الفکرة الاساسیة لدى الإمام هی ان اسرار الکون لا یمکن التعرف الیها فی تحقیقات المتصوفة، بل ان هذه الرموز تنکشف بعبادة الله الحقة لا برسوم العبادات والعادات، وهی الاستغراق فی وجود الحق والفناء فی سبحات جلاله وجماله والاستهلال فی شهوده بطریق العشق الکامل له والذوق والانجذاب. من قصیدة بحر العشق قلبی المجنون اسطورة حول شمعة العشق.. احترقت فراشتی.. ضفیرة المعشوق فخ لقلوب عشاقها.. شامَتُهُ السوداء على الشفة، بذرتی صخب العشاق وهی وجههم الغمّاز، الأسرار والإبتهالات کلها فی بیتی.. زقاق الحانة البهی، بیت صفاء العشق طاق ورواق وجهک مأوای.. ومنزلی صراخ الرعد.. نواحٌ لاهبٌ لقلبٍ یبحر العشق.. قطرة سُکْرٍ - حینما تألف المشط مع زلف المعشوق غداً.. کتفی مسجد القدیسین کلهم... ولعل القارئ لو جال فی أعمال الإمام على الجملة لوجد انه کشاعرٍ لا یقلّ شأناً عنه کناثرٍ. وقصائده هنا تعتبر تجلیاً لأفکاره العرفانیة التی أنشدها فی مناجاته مع الله تعالى. اضافة الى انه نظم أشعاراً فی أسرار الکون والخلق، وهو الهاجس الأکبر لدى المفکرین والفلاسفة والعرفاء. ویجوز القول فی هذا السیاق ان الأمام قارَبَ النهج الشعری الذی وضعه الشاعر العرفانی الکبیر حافظ الشیرازی، مع سعیه الى ابتکار دلالات جدیدة لبعض المفردات الصوفیة، وخلق عوالم ذات معانٍ تخرج عن الأطار المألوف. وبالرغم من امتلائها فی الرمزیة الصوفیة والعرفانیة، وغموض دلالاتها، الاّ ان قراءة متأنیة تجعل من تلک القصائد نقطة جاذبیة تسیطر على الروح والحواس بشفافیتها، ولغتها الآسرة، وشاعریة ألفاظها المنتقاة بعنایة، وحرقة العطش الى الحب الألهی الفیّاض.. وهو الحب الذی یتدفق من ثنایا کل کلمة وعبارة.. | ||||
الإحصائيات مشاهدة: 213 تنزیل PDF: 92 |
||||