النوروز فی الأدب العربی: | ||||
PDF (992 K) | ||||
اهتمّ الأدباء العرب بالأعیاد الفارسیة اهتماماً بالغاً؛ فسجّلت کتب التاریخ والأدب هذه الأعیاد بصورة دقیقة، مبیّنة سننها وعادات أقوامها من طقوس، وصوّروها على أنها رمز للخیر والمحبة والوفاق والحوار، لذلک رووا أجمل قصائدهم فی مناسباتها، وزیّنوا بها دواوینهم وکتبهم. ویظهر لنا جلیاً من التاریخ أن عظماء المسلمین والخلفاء والسلاطین والأمراء کانوا یقیمون الاحتفالات فی هذه المواسم على أنها أعیاد مبارکة. إذ أن أهم عامل یمیّز النیروز عن سائر الأعیاد الإیرانیة القدیمة ویجعله خالداً إلى الیوم هو – باعتقاد الباحثین- الفلسفة الوجودیة التی ینطوی علیها هذا العید، وهی التوالد والاستمراریة اللذان یتجسّدان فی الطبیعة مع بدایة کل سنة جدیدة. ویظهر فی الأدب والفن مدى التفاعل الثقافی والحضاری الذی کان قائماً بین العرب والفرس عن طریق أعیادهما. وهذا التفاعل بین الأمتین العربیة والفارسیة یمثل تجربة من أفضل التجارب الإنسانیة التی حصلت بین شعوب العالم من النواحی الثقافیة والحضاریة والاجتماعیة والسیاسیة والدینیة. وبهذا الاتصال الروحی والعقلی، استطاعت الأمتان أن تشیّدا صرحاً عظیماً وحضارةً إنسانیةً نهلت منها الأمم الأخرى. منحت الأعیاد الفارسیة أدباء العرب مادةً وموضوعاً عظیمین فی مجال الأدب، فکانت تُنشد المئات من القصائد الشعریة والروائع التی یتغنّى فیها أصحابها بجمال الطبیعة وما یواکبها من عطاء وبرکة، کما تجلى ذلک فی الأعداد الهائلة من المقطوعات النثریة حتى أصبحت تشکل باباً مستقلاً من أبواب الأدب بحیث یمکن أن یکون موضوعاً خصباً لدراسة الدارسین والباحثین یطرحون فیه آراءهم وتحلیلاتهم. والنیروز (٢٠ آذار/ مارس من کل عام) هو یوم المحبة ولقاء الأحبة، وهو الیوم الذی تتصافى فیه القلوب، وتسود المحبة بین الناس، فیتبادلون أجمل الهدایا التی تزید العید بهجة وحبوراً. أهدى أحمد بن یوسف الکاتب إلى المأمون سفطاً من الذهب فیه عود هندی فی طوله وعرضه، وکتب معه: «هذا یومٌ جرت فیه العادة بألطاف العید والسعادة» . أما فی الشعر، فالنیروز هو عید الطبیعة، والطبیعة فی هذا الفصل کشفت حجابها وأظهرت محاسن وجهها، وأبدت طرائف شتى من ظواهرها، فأبدت للعیون بشاشة وأصبحت الأرض ضاحکة والطیر مسرورة والنبت سکرانَ ومخموراً. اغتنم شعراء العرب والفرس قدوم النیروز لکی ینظموا قصائد فی مدح خلیفة أو تهنئة أمیر من أجل تمکین الصلة وتوطید أواصر الصداقة. هنا أبو تمام یقول: قد شرد الصبح هذا اللیل من أفقه وسوّغ الدهر ما قد کان من شرفه سبقت إلى الخلق فی النیروز عافیة بها شفاهم جدید الدهر من خلقه وقد اتخذ الشعراء فی العهد العباسی من هذه المناسبة فرصة سانحة لإظهار الولاء للممدوحین (خلفاء، أمراء، ولاة ووزراء) وعمدوا إلى المقارنة بین الممدوحین ومظاهر الطبیعة عبر استذکارهم بعطاء الطبیعة فی إشارة إلى دفع الممدوح لیمثل بالطبیعة، فیجزل العطاء للشاعر. فمثلاً هذا البحتری یقول فی مدح الهیثم الغنوی: (أتاک الربیع الطلق یختال ضاحکاً من الحسن حتى کاد أن یتکلما وقد نبّه النیروز فی غسق الدجى أوائل ورد کنّ بالأمس نوّما وقال عبد الصمد بن بابک یخاطب الصاحب بن عباد وزیر عضد الدولة البویهی الدیلمی: لقد نشر النیروز وشیاً على الربى من النور لم تظفر به کفّ راقم کأن بن عباد سقى المزن نشره فجاد برشاش من الوبل ساجم» وعن جمالیة «مهرجان النیروز»، وصف أبو نواس جمال الربیع وتحت باقات من الزهور فقال: یباکرنا النوروز فی غَلَس الدجى بنور من الأغصان کالأنجم الزهر یلوح کأعلام المطارف وشیه من الصُّفر فوق البیض والخُضر والحُمر إذا قابلته الریح وما برأسه إلى الشرب أن سّروا ومال إلى السُّکر» وصف أبو نواس جمال الربیع ومجالسه وارتبط العید فی هذه القصیدة ارتباطاً شدیداً بمظاهر البهجة والسرور التی تتمثل فی تنامی روح الألفة والمحبة مع أجواء الطبیعة والغناء لحظة ارتسام الأضواء (البیض، الحمر والخضر) فوق تلک الربى التی تتشرّب خیوط الشمس فی ساعة الغروب لتضیء بنورها الأغصان کالأنجم الزاهرة فی کبد السماء فی الظلماء. ووصف کیف أن الخمائل سکرت وتمایلت أغصانها مع أنفاس الربیع کالسکارى تحیی السکارى الشاربین فی ظلها. والنیروز هو عید الطبیعة، لأن النیروز هو الیوم الجدید. فالنیروز هو عید الطبیعة فی خدمة الإنسان. إنّ اهتمام الملوک والخلفاء والأمراء بالنیروز عبر التاریخ، کان من أجل عامله الاقتصادی الذی أسهم فی زیادة الواردات التی کانت تغدق على خزانة الدولة. فکان الشعراء العرب قدیماً یذکرون النیروز فی أشعارهم لمجرد أمر الخراج وما یأمر به الأمراء والخلفاء، لکن شیئاً فشیئاً تغیّر مفهوم النیروز فی الشعر العربی وأخذ نکهة الجمال والطبیعة وراح یُنظر إلیه کعیدٍ للشجرة والحیاة والطلعة البهیة. فنجد الشاعر الولید البحتری معجباً بالطبیعة الباسمة فیقول: «أتاک الربیع الطلق یختال ضاحکاً من الحُسن حتى کاد أن یتکلّما وقد نبّه النوروز فی غسق الدجى أوائل ورد کُن بالأمس نوّما یُفتقها برد الندى فکأنه یبُث حدیثاً کان قبلُ مُکتما ومن شجر ردّ الربیع لباسه علیه کما نشرت وشیاً منمنما أحلّ فأبدى للعیون بشاشة وکان قذى فی العین أو کان مُحرما ورقّ نسیم الریح حتى حسبته یجیء بأنفاس الأحبة نُعّما ما یحبسُ الراح التی أنت خلّها وما یمنع الأوتار أن تترنّما» فالشاعر یقرن النیروز بالربیع وبالورد والجمال والفرح والأنس. بینما نجد قصیدة للشاعر العراقی بدر شاکر السیّاب تظهر أن النیروز هو ثورة الفقراء الکادحین على الظلم الذی کانوا یعانون منه، ویذکّر بالظلم الواقع على الفقراء العرب والکرد فی العراق إذ قال فیها: «وقرّب القید من شعبین شدّهما ووجهت من خطى الشعبین أفکار ووحّد الجوع عزم الجائعین على أن یقودهما وألّا تخمد النارُ». وختامها مسکٌ مع بعض أبیات لأبی الطیب المتنبی عن النیروز: «جاءَ نَیروزُنا وَأَنتَ مُرادُه وَوَرَت بِالَّذی أَرادَ زِنادُه هَذِهِ النَّظرَةُ الَّتی نالَها مِنـ ـکَ إِلى مِثلِها مِنَ الحَولِ زادُه یَنثَنی عَنکَ آخِرَ الیَومِ مِنهُ ناظِرٌ أَنتَ طَرفُهُ وَرُقادُه نَحنُ فی أَرضِ فارِسٍ فی سُرورٍ ذا الصَباحُ الَّذی نَرى میلاده» هکذا کان النیروز وما زال فی أدب الإیرانیین والعرب على حدٍّ سواء، فمع میلاد الطبیعة فی کل عام، یتجدّد هذا المهرجان الأخضر، مهرجان الطبیعة الغضّة التی تحملُ نسائمَ الحیاة وبشائرَ الخصوبة للإنسان. اهتمّ الأدباء العرب بالأعیاد الفارسیة اهتماماً بالغاً؛ فسجّلت کتب التاریخ والأدب هذه الأعیاد بصورة دقیقة، مبیّنة سننها وعادات أقوامها من طقوس، وصوّروها على أنها رمز للخیر والمحبة والوفاق والحوار، لذلک رووا أجمل قصائدهم فی مناسباتها، وزیّنوا بها دواوینهم وکتبهم. | ||||
الإحصائيات مشاهدة: 420 تنزیل PDF: 115 |
||||