دور الحجّ فی ترسیخ السلام فی العلاقات الاجتماعیة | ||||
PDF (5887 K) | ||||
محمّد مهدی الآصفی ﴿أَوَ لَم یَرَوا أَنّا جَعَلْنا حَرَماً آمِناً﴾. من مهام الحج تحقیق السلام فی العلاقات الاجتماعیة، وتوفیر فرصة نموذجیة للسلام فی العلاقات فیما بین الناس، فی فترة الإِحرام فی الحج، وتوفیر رقعة نموذجیة من الأرض; لتمکین السلام فی العلاقات الاجتماعیة هی رقعة الحرم. ١ـ التحرر من الأنا: تبدأ هذه الرحلة فی المیقات بتجاوز الذات والأنا، ومحاولة صهر الذات والأنا فی المسیرة الإِیمانیة إلى الله تعالى، وهذه هی المرحلة الأولى فی هذه الرحلة الإِلهیة. وتصبّ هذه الذوات بعد انسلاخها عن الأنا، ومختصات هذا الأناـ فی الحشد البشری ـ الکبیر، فی الطواف حول البیت، کما تصب السواقی والأنهر الصغیرة فی البحر الکبیر، فلا تستطیع أن تمیز ـ بعد ذلک ـ أین هی میاه هذه السواقی من البحر الکبیر، وهی رحلة شاقة وذات معانی کبیرة فی حیاة الإِنسان، تستحق منا الکثیر من التأمل والتفکیر. تبدأ هذه الرحلة من المیقات، حیث یتجرّد الإِنسان فیه من ذاته وأهوائه، وخصائصه التی تفرزه عن الآخرین وتفرده، وتحجزه عن الانصهار فی المسیرة الإلهیة الحاشدة، التی لا یتمایز فیها الأفراد، ولا یحجز بعضهم عن البعض شیءٌ من هذه النوازع، والفوارز التی تفصل الناس بعضهم عن بعض. إنّ المیقات حدّ فاصل، بین الأنا وبین الجماعة المؤمنة. فقبل أن یدخل الحاج المیقات یعیش کما یعیش سائرُ الناس الأنا تمییزاً وتشخیصاً. وللأنا تظاهر وبروز فی حیاتهم، وللأنا سماته معالمه الواضحة. فإذا دخل المیقات تضاءل الأنا وخف صراخه وصوته وفقد معالمه وممیزاته، وفقد لونه وصبغته الصارخة، وهذا الانقلاب فی الشخصیة والموقع یتمّ فی المیقات. ویرمز إلى هذا الانقلاب (لباس الإِحرام). إنّ هذه الخطوة الأولى فی المیقات تعبّر عن انسلاخ الانسان عن هویته وشخصیته وأنانیته وتعبر أیضاً عن العبور على الذات وتجاوز الأنا. وکما یجرد المیت عن ملابسه، لأنّ دور الأنا فی حیاته قد انتهى، ولم یعد للأنا حجم ولا دور ولا شکل فی المرحلة الجدیدة من حیاته، کذلک المیقات مرحلة أخرى من الحیات ضمن هذه الحیاة الدنیا، یتجرد فیها الحاج عن هویته وأنانیته، وینسلخ عن ذاته لیدخل المیقات، وکان المیقات مصفاة، وأول شیء تأخذه هذه المرحلة من الإِنسان هو ذاته، فإذا تجرد عن الأنا وانسلخ عن ذاته حق له أن یتجاوز المیقات إلى الحج، وما لم یتخلص الإِنسان عن ذاته فلا یحق له أن یتجاوز المیقات إلى لقاء الله. فإذا خلص فی هذه المصفاة من ذاته اجتاز المیقات وتوجه إلى الحج. وإنّ أکثر ما یثیر المتاعب فی حیاة الناس ویعکّر العلاقة فیما بینهم هو التصادم الذی یحدث بین الذوات والأنانیات، وعندما تذوب الذات عند الانسان وتنصهر، ویخلص الانسان من طغیان الأنا، ینتهی شطر کبیر من مشاکل الإِنسان، ولقاءاته السبیلة مع الآخرین، وما یستتبعه من صدام وتردی العلاقة، وحالة الأثرة والأنانیة، وحب الذات، فإذا خلصت حیاته من الذاتیة والأنانیة تمکن أن یسلم من هذه المشاکل والمتاعب التی تعجّ بها حیاة الناس فی المجتمع، واستطاع أن یضع حیاته وعلاقاته الاجتماعیة على أسس سلیمة وأن یحکم السلام فی علاقاته مع الآخرین. التجمل والترف: وفی المیقات یختص الإنسان مع خصلة أخرى من خصال الأنا، وهی خصلة ممدوحة لو کانت فی الحدود المعقولة، التی لا تستأثر باهتمام الانسان کله ولا تملک إرادته ولا تحکمها، فإذا تحولت هذه الخصلة إلى خصلة حاکمة على إرادته کانت صفة ذمیمة من صفات الإِنسان، وتلک هی خصلة التجمل، فهی خصلة ممدوحة فی الحدود التی تظهر على الانسان نعم الله تعالى وفضله، فإذا تحولت إلى خاصیة من خواص الذات، مهمتها إبراز الذات وإظهارها، لا إبراز نعم الله تعالى وفضله، تحولت إلى صفة ذمیمة من صفات الذات، وسلبته القدرة على تحمل الشظف والسیر على طریق ذات الشوکة. وفی المیقات یدخل الأنا فی هذه التصفیة الإِلهیة، ویلزم الإِحرام التخلی فی فترة الإِحرام عن هذه الخصلة، ویحرم علیه الطیب والتجمل، حتى بالنسبة للنساء، فیما یتجاوز الحد المألوف للمرأة فی التجمل، وذلک لتمکین الإِنسان من هذه الخصلة التی تشکل حالة تظاهر للأنا، وحالة ترف تؤثر تأثیراً سلبیاً على إرادة الإِنسان، وقدرته فی مواجهة متاعب الطریق، إذا لم یعمل على تعدیل وتهذیب هذه الخصلة، وإرجاعها إلى نصابها الممدوح، الذی یقره الإِسلام ویأمر به. سلطان الهوى والشهوات: وفی المیقات یمر الأنا بتصفیة ثالثة، وهی تخلیص الإِنسان من سلطان الهوى والشهوات والغرائز، وهی مسألة فی غایة الدقة فی الإِسلام فقد قلنا إنّ تخلیص الإِنسان من سلطان الهوى والشهوات، ولم نقل من الهوى والشهوات، ذلک لأنّ الإِسلام لا یکافح الأهواء والشهوات فی نفس الإنسان، وإنما یعتبرها ضرورة من ضرورات الحیاة ومن دونها تختل الحیاة، وإنما الذی یکافحه الإسلام هو سلطان الهوى، والشهوات على الإنسان وإرادته، ولیست الأهواء والشهوات فی حدّ ذاتها مصدراً للانحراف والسقوط فی حیاة الانسان، وإنما الانحراف والسقوط یأتی من ناحیة سلطان الهوى على إرادته، فإذا تمکنت الأهواء منه، وتحکمت الشهوات علیه وخضع واستسلم لها، عند ذلک فقط یتمکن الشیطان منه، ویتعرض الانسان للسقوط والانحراف. ولذلک فإن النهج الإِسلامیّ فی التربیة یعمل على ترویض الأهواء والشهوات وتطویعها لارادة الإِنسان، وتمکین الإرادة منها، دون أن یکافحها ویحاربها ویستأصلها ویصادرها. والصوم نموذج واضح لهذا المنهج التربوی. والمیقات هو الآخر یقع فی هذا الخط التربوی، ففی المیقات یتعرض الانسان لتصفیة واسعة فی (الأنا) و(الهوى)، ویمتص المیقات من نفس الانسان سلطان هاتین الخصلتین، ویسمح له بالدخول فی رحاب ضیافة الله ـ تعالى ـ بعد أن یجرده من هذه النزعة الحیوانیة التی تطغى على تصرفاته وتحکم إرادته وفعله. والهوى عند ما یحکم الإِنسان یتحول إلى مصدر للشرّ فی علاقاته وحیاته الاجتماعیة، ویسلب الأمن والسلام فی حیاة الناس، فلیس ما بین الناس من خلاف وصراع وصدام مصدره الاختلاف فی الرأی غالباً وإنما یعود السبب فی نسبة کبیرة وواسعة فی هذه الخلافات إلى عامل الهوى فی العلاقات الاجتماعیة. وللإِمام الخمینی (قدس سره) کلمة ذات دلالة عمیقة فیما یقول قدس سره: «لو أن مئة وأربعة وعشرین ألف نبیّ عاشوا فی مکان واحد لما اختلفوا فیما بینهم، لأنه لا سلطان للهوى فی نفوسهم». فالمیقات نقطة تحول وانقلاب فی حیاة الإِنسان، وأهم ما فی هذا الانقلاب هو إضعاف الأنا والذات، وخصال وخصائص فی حیاة الإِنسان. فإذا تجرد عن ذلک کان موءَهلاً للدخول فی رحاب ضیافة الله فی الحج. ومن عجب أن المذاهب الفکریة المادیة تؤکد عکس ذلک تعزیز الأنا وتثبیت واعتماد عنصر الاعتداد بالنفس، وتنمیة حالة الغرور والعجب. بخلاف الإِسلام الذی یبنی منهجه التربوی على أصل مکافحة الأنا وإضعافها وتحجیمها، وتحویل الإِنسان من محور الأنا، إلى محور حاکمیة الله تعالى وسلطانه فی حیاته، ویدعو الإِنسان إلى التحلل من هذاالمحور و الارتباط بالمحور الربانی والانصهار فیه (قل إن صلاتی ونسکی ومحیای ومماتی لله رب العالمین). ٢ـ الانصهار فی الجماعة: فإذا تجرد الإِنسان عن الأنا وانسلخ عن ذاته وجد نفسه فجأة فی وسط حشد بشری کبیر، لا یمتاز بعضهم عن بعض، ولا یکاد یفرق بینهم شیء، یتحرک ضمن موج بشری کبیر هادر، ینطلق من المیقات إلى الکعبة، کما تصب الأنهر فی البحر من کل میقات من هذه المواقیت المعروفة، التی وقّتها رسول الله صلى الله علیه وآله، تجری أنهر کثیرة من الناس تصبّ فی الحرم حول الکعبة، فتتجمع هذه الأنهر حول البیت الذی رفع قواعده إبراهیم ومعه ابنه اسماعیل علیهما السلام وفی هذا التیار البشری العظیم یتضاءل عنده الإِحساس بالأنا، حتى لا تکاد تشعر به حواسه ومشاعره، فلا ترى فی المطاف أفراداً یتحرکون، وإنما ترى کتلة بشریة واحدة من الناس تطوف حول البیت العتیق. إنّ الناس قبل أن یتجاوزوا المیقات إلى الحرم مجموعة من الأفراد، یتمایزون فیما بینهم، ویتزایدون، ویتفاخرون، ویتجادلون، ویضرّ بعضهم بعضاً، ویعتدی بعضهم على بعض، وتجمعهم المجامع من المدن والضواحی والقرى فتتجمع فی هذه المجامع النزعات المتضاربة والأهواء المتخالفة والرغبات المتضادة، فتکون الجامع البشریة ساحة للصراع والخلاف. أمّا عند ما یتجاوزون المیقات إلى الحرم، ویصبون من خلال قنوات المواقیت التی وقّتها رسول الله صلى الله علیه وآله إلى الحرم، فإنهم یتحولون إلى أمة واحدة، ویتحرکون باتجاه واحد ویلبّون دعوة واحدة ویلبسون زیّاً واحداً، ویطوفون حول کعبة واحدة، ویسعون فی مسار واحد ویؤدون مناسک واحدة، لا یختلفون ولا یتجادلون، ولا یتفاخرون، ولا یتضاربون، ولا یؤذی بعضهم بعضاً، وکأنّ الحرم یصهرهم فی بوتقة واحدة، ویجعل منهم کیاناً جدیداً یختلف عما کانوا علیه. الحرم الآمن: وأبرز خصائص هذا الترکیب الجدید للمجتمع البشری الذی یستحدثه الحرم فی حیاة الناس هو الأمن، والاحساس بالأمن. إن هذا الأمن من خصائص ونتائج هذا الترکیب البشری الجدید الذی یجده الناس فی الحرم، وهو فی نفس الوقت من أسبابه وموجباته. فإن الناس إذا شعروا بالأمن بعضهم من بعض، التقى بعضهم بعضاً دون حذر، وتعامل بعضهم من بعض، وتلاقوا، وتآلفوا، وتعاونوا. فالأمن یعد الناس لیکونوا أمة واحدة، والأمن یعطی للناس هذه الفرصة، التی تتطلبها عملیة الانتقال من الحیاة الفردیة، التی یعیشها الناس عامة إلى هذا النمط الجدید، الذی یریده الله تعالى لعباده، والذی یرسم الحرم نموذجاً له، کما یصح العکس أیضاً، فانّ الأمن والإحساس بالأمن و النتیجة الطبیعیة لهذا اللون الجدید من الحیاة الاجتماعیة. فإنّ الناس عند ما یحشرون فی الحرم لا یختلفون ولا یتشاجرون ولا یتفاخرون ولا یتزایدون ولا یتضاربون. الحرم رقعة نموذجیة لساحة الحیاة: والله تعالى یرید أن یکون وجه الأرض کلّه آمنا للناس، یعیش الناس بعضهم مع بعض فی أمن ودعة وسلام لا یحنق بعضهم على بعض، ولا ینوى أحد لأحد شرا، یُؤثِر بعضهم بعضاً على نفسه، ویحب بعضهم بعضا. یقول تعالى فی صفة المهاجرین والأنصار فی الصدر الأول من هذا الدین... ﴿وَالَّذِینَ تَبَوَّؤُوا الدَّارَ وَالْإِیمَانَ مِن قَبْلِهِمْ یُحِبُّونَ مَنْ هَاجَرَ إِلَیْهِمْ وَلَا یَجِدُونَ فِی صُدُورِهِمْ حَاجَةً مِّمَّا أُوتُوا وَیُؤْثِرُونَ عَلَى أَنفُسِهِمْ وَلَوْ کَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ وَمَن یُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُوْلَئِکَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ * وَالَّذِینَ جَاؤُوا مِن بَعْدِهِمْ یَقُولُونَ رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا وَلِإِخْوَانِنَا الَّذِینَ سَبَقُونَا بِالْإِیمَانِ وَلَا تَجْعَلْ فِی قُلُوبِنَا غِلًّا لِّلَّذِینَ آمَنُوا رَبَّنَا إِنَّکَ رَؤُوفٌ رَّحِیم﴾ ولکن الناس یرفضون أن یعیشوا کما یرید الله تعالى لهم. فجعل الله لهم من الحرم (رقعة نموذجیة) للحیاة الآمنة التی یریدها للناس. بدعاء عبده وخلیله إبراهیم علیه السلام: ﴿وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِیمُ رَبِّ اجْعَلْ هَذَا بَلَدًا آمِنًا وَارْزُقْ أَهْلَهُ مِنَ الثَّمَرَاتِ مَنْ آمَنَ مِنْهُم بِاللّهِ وَالْیَوْمِ الآخِر﴾. هذا هو دعاء العبد الصالح إبراهیم علیه السلام: وقد استجاب الله تعالى لدعاء عبده وخلیله إبراهیم علیه السلام فقال: ﴿وَإِذْ جَعَلْنَا الْبَیْتَ مَثَابَةً لِّلنَّاسِ وَأَمْناً﴾. والمثابة: المحل الذی یرجع إلیه الناس، وقد جعل الله تعالى البیت مثابة للناس یجمع الناس ویرجعون إلیه، ویقصدونه من کل فجّ عمیق، ثمّ جعله آمناً یأمن فیه الناس بعضهم من بعض ولا یحذر فیه أحد الآخرین على نفسه; یقول تعالى: ﴿أَوَلَمْ یَرَوْا أَنَّا جَعَلْنَا حَرَمًا آمِنًا﴾. وجعل رقعة الحرم رقعة نموذجیة لساحة الحیاة کلها، کما جعل الشهر الذی یتم فیه الحج (ذوالحجة) من الأشهر الحرم. یقول الله تعالى: ﴿هَذَا بَلَدًا آمِنًا﴾. وحتى (الجدال )الذی ینطوی على نوع من العدوان على الآخرین یحرمه الله تعالى على الحجاج، ﴿فَلاَ رَفَثَ وَلاَ فُسُوقَ وَلاَ جِدَالَ فِی الْحَج﴾. فإن الجدال منفذ للعدوان بین الناس، وکثیر من العدوان یبدأ بین الناس من الجدال الذی یسعى فیه کل من الطرفین المتجادلین إلى إثبات الذات وتجاوز الطرف الآخر. والأمن فی الحرم أمن شامل، یشمل حتى الحیوان والنبات، فلا یجوز الصید فی الحرم، ولا یجوز قطع النباتات والأشجار فی منطقة الحرم إلاّ فی حالات خاصة یذکرها الفقهاء، وحرمة الصید وقطع النباتات لا تخص حالة الاحرام، فإنهما تحرمان على المُحرم والمُحل معاً فی منطقة الاحرام، والحرم فی الاسلام عینة صغیرة لساحة الحیاة کلها، والذی یجب أن یعرف رأی الاسلام فی الحیاة ; فإنّ هذه العینة الصغیرة والرقعة المحدودة من الأرض تجسد تخطیط الاسلام لساحة الحیاة الواسعة، فإنّ العلاقة فیما بین الناس والارتباط والتلاقی هو الافراز الطبیعی للحیاة الاجتماعیة، فمن أجل هذه العلاقة واللقاء والتلاقی خلق الله تعالى الانسان اجتماعیاً وأعدّه للحیاة الاجتماعیة، ولا یبلغ الانسان الکمال والنضج الذی أعده الله تعالى له إلاّ فی وسط هذه العلاقات واللقاءات والتلاقی فی الحیاة الاجتماعیة، فلو أنّ انساناً اعتزل الحیاة وعاش وحده فی جزیرة قاصیة لم یبلغ بالتأکید النضج والکمال الذی أعدّه الله تعالى له، وهذه اللقاءات والعلاقات إنما تثمر وتعطی وتنتج فی حیاة الانسان، فیما إذا توفر له الجوّ السلیم، الأمن والسلام، أما عند ما تکون هذه العلاقة فی جوّ من الریبة والحذر، والخوف والقلق والعدوان والکید والمکر، فإنّ هذه العلاقة والارتباط فیما بین الناس لا تکاد تثمر هذه الثمرة، ولا تکاد تبلغ بالانسان النضج والکمال، الذی یطلبه الانسان فی الحیاة الاجتماعیة، من خلال هذه العلاقات واللقاءات والارتباطات، بل قد تعود العلاقة فی مثل هذا الجوّ إلى نتائج سلبیة فی حیاة الانسان. فالاسلام یخطط بناءً على هذا الفهم لضرورة العلاقة وحدودها فی حیاة الانسان، لیجعل العلاقة فیما بین الناس فی الحیاة الاجتماعیة فی جوّ آمن وسلیم، فیأمن الانسان الآخرین على نفسه فی حضوره وغیبته، وفی نفسه، وعرضه، وماله، ویأمن على نفسه من ألسنة الآخرین وأیدیهم، ومن مکرهم وکیدهم وعدوانهم، فیعیش فی جوّ من الأمن الشامل، ویبنی علاقاته کلها مع الآخرین فی هذا الجوّ الآمن، فی السراء والضراء، وفی التجارة والبیع، وفی الزواج والعلاقات الاجتماعیة، وفی علاقاته مع أصدقائه وزملائه، وفی علاقاته مع أعضاء أسرته، وفی ارتباطه بمن هو فوقه ومن هو دونه، وحینما یأخذ وحینما یعطی، وحینما یحتاج إلى الآخرین وحینما یحتاج إلیه الآخرون... الاسلام یخطّط ویعمل ; لیجعل العلاقة فیما بین الناس فی الحیاة الاجتماعیة على کل الأصعدة فی جوّ من الأمن والسلام، لتعطی هذه العلاقة الثمرات المطلوبة منها فی الحیاة الاجتماعیة، ویخطط الاسلام ویعمل لیجعل الحیاة الاجتماعیة حیاة آمنة مطمئنة لیتعایش الناس فیها بسلام. والحرم عینة صغیرة نموذجیة فی الحیاة الآمنة والمطمئنة التی یطلبها الاسلام، والاحرام عینة أخرى نموذجیة للحالة التی یطلبها الاسلام للناس فی الحیاة الاجتماعیة، فی علاقة الناس بعضهم ببعض، ویعود الحجاج من الاحرام والحرم إلى واقع حیاتهم لیأخذوا معهم النموذج الإلهی للحیاة وللعلاقات الاجتماعیة، ویعیشوا حیاتهم بها. ٣ـ الانتقال إلى المحور الإِلهی: وهذه هی المرحلة الثالثة، من رحلة الحج الابراهیمی. فی المرحلة الأولى یتخلص الانسان من فردیته وأنانیته وأعراض هذه الأنانیة. وفی المرحلة الثانیة یصبّ فی الحرم فی الجماعة المسلمة، وینصهر فی هذه الجماعة (الأمّة). وفی المرحلة الثالثة وهی الغایة الأخیرة فی هذه الرحلة تصبّ هذه الجماعة فی المطاف حول الکعبة. والکعبة فی لغة الحج الرمزیة رمز للمحوریة الالهیة فی حیاة الانسان. وإذا استطاع الانسان فی المرحلة الأولى من هذه الرحلة، أن یتخلص من جاذبیة محور الأنانیة فی حیاته، فإنّ المحور الالهی یجذبه جذباً قویاً بطبیعة الحال. وانجذاب الانسان إلى هذا المحور، أمر طبیعی کامن فی عمق فطرة الإِنسان، والأنا هو الذی یحجز الإِنسان عن هذه الجاذبیة، فإذا تحرر عن حاجز الأنا فانّ الجاذبیة الإِلهیة تجذبه. والطواف بعد الإِحرام رمز لذلک، فإنّ الاحرام من المیقات یرمز للتحرر من الأنا، والطواف حول البیت یرمز إلى الانجذاب إلى الله تعالى، والحرکة حول المحور الالهی فی الحیاة. وعلیه فإنّ حرکة الطواف نقلة فی حیاة الانسان من الأنا إلى الله تعالى، إنه تعبیر رمزی عن التوحید فی حیاة الانسان المسلم، إلاّ أنّ هذا التوحید لیس هو التوحید النظری، الذی یعرفه الناس، وإنما هو توحید العبودیة لله، وتوحید الحبّ والولاء والاهتمام، کما ترسمه الآیة المبارکة من سورة الأنعام: ﴿قُلْ إِنَّ صَلاَتِی وَنُسُکِی وَمَحْیَایَ وَمَمَاتِی لِلّهِ رَبِّ الْعَالَمِینَ *لاَ شَرِیکَ لَهُ وَبِذَلِکَ أُمِرْتُ وَأَنَاْ أَوَّلُ الْمُسْلِمِینَ﴾.
لماذا عبر الانصهار فی الجماعة؟ فی هذه المرحلة نحن نفهم المنطلق والغایة فی حرکة الانسان بصورة دقیقة، فالمنطلق الذی ینطلق منه الانسان هو تجاوز الأنا والذات ویعبر الاحرام فی المیقات عن هذا المنطلق، والغایة هی الحرکة إلى الله وتوحیده تعالى، ویرمز الطواف إلى هذه الغایة، ولکن الانسان فی الحج یصل إلى هذه الغایة عبر الانصهار فی الجماعة المسلمة، ومن دون الانصار فی الأمة المسلمة لا یمکن الوصول إلى هذه الغایة. وعند ما نستعرض آیات الحج، والکعبة والبیت، فی القرآن منذ أن رفع إبراهیم وإسماعیل القواعد من البیت، نجد اهتماماً کبیراً بحضور الناس فی هذا البیت، وفی هذا الموسم، وأبلغ ما فی ذلک تعبیر القرآن عن بیت الله بأنه بیت الناس ﴿إِنَّ أَوَّلَ بَیْتٍ وُضِعَ لِلنَّاسِ لَلَّذِی بِبَکَّةَ مُبَارَکًا وَهُدًى لِّلْعَالَمِینَ * فِیهِ آیَاتٌ بَیِّنَاتٌ مَّقَامُ إِبْرَاهِیمَ وَمَن دَخَلَهُ کَانَ آمِنًا وَلِلّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَیْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَیْهِ سَبِیلاً﴾. فالبیت مثابة للناس یجتمع الناس حوله، ویثوب إلیه الناس، ویجتمع الناس من کل حدب وصوب، ثم إننا فی سورة المائدة نقرأ ﴿جَعَلَ اللّهُ الْکَعْبَةَ الْبَیْتَ الْحَرَامَ قِیَامًا لِّلنَّاس﴾. فالکعبة تقوم حیاة الناس، وتقوم حیاة الناس بها، وعند الإفاضة یأمر الله تعالى عباده أن لا ینفرد بعضهم عن بعض فی الإِفاضة، وإنما یفیض کلُّ منهم حیث أفاض الناس ﴿ثُمَّ أَفِیضُواْ مِنْ حَیْثُ أَفَاضَ النَّاسُ وَاسْتَغْفِرُواْ اللّه﴾. إذن حضور الناس حول البیت وتواجدهم فی الموسم، وانصهار الفرد داخل البیت والحرم فی الناس شییء أساس فی الحج، فی طریق حرکة الانسان إلى الله تعالى. ونتساءل بعد ذلک، لماذا؟ وهو سؤال مهم یرتبط بسر من أسرار هذا الدین، فإن هذا الدین یحرک الانسان إلى الله تعالى ولکن من خلال الحضور فی وسط الناس فالحج حرکة إلى الله، ولکن من خلال الانصهار فی الناس، والصلاة معراج کل مؤمن، ولکن من خلال الجماعة، وحتى الاعتکاف الذی هو نحو من الاعتزال عن الناس یتم فی المسجد الحرام ومسجد النبی(صلى الله علیه وآله) والمسجد الجامع فی الکوفة، والمسجد الجامع فی أی بلد، ولیس فی أی مسجد معزول متروک، فنتساءل مرة أخرى لماذا لا تتم حرکة الانسان إلى الله فی الحج إلاّ من خلال الانصهار فی الناس ومن خلال الحضور فی وسط الناس؟. والجواب: إنّ من غیر الممکن أن یتجاوز الإِنسان الأنا فی عزلة من الناس، وهو شرط أساس فی الحرکة إلى الله تعالى.والانسان قد یتصور إذا اعتزل الناس، وابتعد عن الحیاة الاجتماعیة، یتحرر من الأنا والهوى والشهوات والرغبات، ولکنه یخطىء کثیراً، فإنّ نزعات الأنانیة تبقى مطویة فی خبایا نفسه، وهو غیر شاعر بها، فإذا دخل الحیاة الاجتماعیة واحتکَّ بالناس، برزت هذه النزعات المخبوءة، على السطح الظاهر من شخصیته، ولکن یمکن اجتثاث هذه النزعات والقضاء علیها إلاّ فی وسط الحیاة الاجتماعیة. إنّ هذه النزعات لا یمکن استئصالها إلاّ من خلال صراع مریر مع النفس فی وسط الحیاة الاجتماعیة، ولا شک أن هذه النزعات، تختفی فی حیاة العزلة والرهبانیة، إلاّ أنّها تبقى کامنة ومختفیة فی النفس، فإذا صادفت فرصة مناسبة وجوّاً مناسباً تبرز مرة واحدة. ولذلک لا بدّ من هذا الوسط الاجتماعی والحیاة الاجتماعیة، والحضور فی وسط المغریات والمثیرات لیستطیع الإِنسان أن یتجاوز الأنا بصورة کاملة. وحقیقة أخرى لا تقل أهمیة عن الأولى: أنّ حرکة الانسان إلى الله تعالى حرکة شاقة عسیرة وصبعة، ولا یستطیع الإِنسان أن یطوی هذا الطریق وحده، فإذا حضر نفسه فی الجماعة المؤمنة، وانصهر فی وسط الأمة هان علیه السیر، واستطاع أن یطوی معهم هذا الطریق بکفاءة وجدارة ویسر. لذلک نقول فی الصلاة، ونکرر فی کل یوم عشر مرات ﴿إِیَّاکَ نَعْبُدُ وإِیَّاکَ نَسْتَعِین﴾ بصیغة الجمع، ولیس بصیغة المتکلم الوحده، فإنّ الطریق إلى الله طریق صعب، ولیس من شک أن سلوک هذا الطریق، وطی هذه المسافة مع الجماعة المؤمنة آمن وأسلم وأیسر. ولذلک نجد أنّ الطریق إلى الله ـ تعالى ـ یتمّ فی الاسلام، عبر الحضور فی الجماعة المسلمة والانصهار فیها، ولیس بمعزل عنها. الأبعاد الثلاثة للحج: تلک هی المراحل الثلاث التی یرسمها الحج بلغته الرمزیة الخاصة: ١ـ مرحلة تجاوز الذات. ٢ـ مرحلة الانصهار فی الجماعة. ٣ـ مرحلة الحرکة إلى الله. وهذه المراحل الثلاث هی الأطراف الثلاثة فی علاقات الانسان ; فإنّ للانسان علاقة بالله تعالى، وعلاقة بالمجتمع والکون، وعلاقة بنفسه. | ||||
الإحصائيات مشاهدة: 428 تنزیل PDF: 160 |
||||