المفهوم السیاسی للحج فی فکر الإمام الخمینی | ||||
PDF (3724 K) | ||||
بقلم الدکتور محمد هادی فلاح زادة التقدیم: الإسلام خمسة أرکان، آخرها حج بیت الله الحرام لمن استطاع إلیه سبیلا، ولا یصح إسلام المرء إن لم ینوی الحج مرة واحدة على الأقل فی عمرة عند استطاعته لذلک، والحج ملتقى للمسلمین من کل المذاهب والأعراق طالما أن الإسلام یجمعهم. فالحج هو ذلک المؤتمر الإسلامی الأکبر الذی یتجدد فی کل عام فی أقدس بقاع الله فی الأرض، وهو طریق واضحة للوحدة والجامعة الإسلامیة إذا شاء الحکام وساعدوا علیه واستغلوا إمکانیاته وطاقاته الخیرة الکبرى، إذ هو العبادة الجماعیة الحسیة المتمیزة فی الإسلام بهذا الوصف، فمناسکه وشعائره کلها مفروضة الأداء بصفة جماعیة فی حد ذاتها، أو لأن وقتها محدود فی أیام معلومة معینة، وهی قائمة أساسا على التجمع والتکتل والتعارف والتآلف، وکل جماعة تؤم البیت الحرام وتفید من منجزات الحج، تکون خیر رسل لأقوامها تبلغهم ما یجب علیهم، وتبعثهم على إنجاز ما یلزم، ومع الزمن یتصل حبل الجماعة وتتضافر جهودها فی بناء الوحدة والأجیال القادمة بتکرار مناسبات الحج کل عام... وواضح أننا لا نجد لغیر الحج من فرائض وعبادات الإسلام الأخرى هذه الصفة الجماعیة الذاتیة؛ لأن تلک العبادات یمکن القیام بها بصفة منفردة، وهی إما ذات نفع شخصی محض، أو ذات هدف اجتماعی على بقع ضیقة بدلیل جعل الجماعة فی الصلاة فرضا کفائیا فی کل بلدة، وأن الزکاة لا یجوز نقلها إلى بلد آخر إلا فی ظروف ما، وهذا لا عیب فیه؛ بل هو فضیلة لما فیه من تمتین بناء الجبهة الداخلیة، وتکافل کل جماعة قلیلة فیما بینها، باعتبار أنها أعرف بمناطق عیشها، وأهل موطنها، مما یدعو إلى اتحاد الجماعات الصغرى، واجتماع کلمتها، ووقوفها صفا واحدا إزاء مصالحها المشترکة، وتوثیق عرى التآلف وتبادل المحبة والإخاء بین أفرادها، کما یحصل ذلک - أیضا - فی أداء صلاة الجمعة والعیدین. حقیقة الحج: لا بد أن یکون للحج مفهومه التجدیدی، وقد أبان العلامة الدهلوی فی "حجة الله البالغة" حقیقة الحج وأثره التجدیدی فی المجتمع فقال: اعلم أن حقیقة الحج اجتماع جماعة عظیمة من الصالحین فی زمان یذکر حال المنعم علیهم من الأنبیاء والصدیقین والشهداء والصالحین، ومکان فیه آیات بینات قد قصده جماعات من أئمة الدین معظمین لشعائر الله متضرعین راغبین ورادین من الله الخیر وتکفیر الخطایا، فإن الهمم إذا اجتمعت بهذه الکیفیة لا یتخلف عنها نزول الرحمة والمغفرة، وهو قوله صلى الله علیه وآله سلم: ما رئی الشیطان یوما هو فیه أصغر ولا أدحر ولا أحقر ولا أغیظ منه فی یوم عرفة... الحدیث، ثم قال: "وکما أن الدولة تحتاج إلى عرضة - أی اختیار - بعد کل مدة یتمیز الناصح من الغاش، والمنقاد من المتمرد، ولیرتفع الصیت وتعلو الکلمة، ویتعارف أهلها فیما بینهم، کذلک الملة تحتاج إلى حج لیتمیز المؤمن من المنافق، ولیظهر دخول الناس فی دین الله أفواجا، ولیرى بعضهم بعضا، فیستفید کل واحد ما لیس عنده، إذ الرغائب إنما تکتسب بالمصاحبة والترائی...". والمکاسب الجماعیة التی تتحقق بالحج متعددة متنوعة، منها سیاسی ومنها اقتصادی، فبالمجتمع المنظم وبتمثل وإدراک غایات الحج یلتقی المسلمون على منهج واحد، وخطة عمل موحدة، ویقیمون دولة واحدة وإن تفرقت الحدود، وبالتعارف والتآلف تتعرف الشعوب حاجات بعضها وموارد وإنتاج بلدانها، بالإضافة إلى ما تقوم به السفارات والقنصلیات الحدیثة والوفود الاقتصادیة من دور وخدمة رسمیة فی هذا الشأن، وبالاجتماع فی صعید الحج یستنصر الضعیف بالقوی، ویستعین صاحب الخطر الداهم بالبعید عنه لدفع الأخطار وصد العدوان والضغط على الحکام المحلیین إذا تراخوا وقصروا فی القیام بواجبهم العام نحو إخوانهم المهدد وجودهم أو مصالحهم. وبذلک تتضح صور المواقف جلیة وتنجلی الرؤى التی قد تشوهها أو تزیفها أو تسکت عنها وسائل الإعلام الحدیثة. الحج فی فکر الإمام الخمینی: على الرغم من أنّ الحج فی الدین الإسلامی الحنیف واحد فی أغلب تفاصیله، یتفق المسلمون على صلبه ویختلفون فی بعض تفاصیله، وأن المسلمین یؤدوا مناسکهم فی وقت واحد، ولکن المسلمین لا یفقهون کثیرا الأبعاد السیاسیة والثقافیة والاجتماعیة لرکن الحج العظیم، إلاّ أنّ الإمام الخمینی تمیز بین أقرانه العلماء برأیه المتمیز فی هذه الفریضة الإسلامیة، فإن ما أتى به الإمام الخمینی هو أن أخرجه من جموده وروتینیته، مضیفاً إلیه معنىً حیویاً جدیداً، فقد نادى بتفعیله وتحریکه على الساحة الإسلامیة... فلم یعد ذلک الحج الطقوسی أو الشعائری الجامد، لم یعد مجرّد سفر وحرکات محددة وأداء واجبات معینة، وإنما صار إضافة إلى الأداء الصحیح لمراسمه وأرکانه، صار فریضة فاعلة لعبت دوراً حیویاً فی الحیاة الاجتماعیة والسیاسیة والنفسیة... فأصبح من خلال أفکار الإمام الخمینی أقرب إلى المؤتمر السنوی الحامل لرسالة الوعی والإرشاد، یستضیء المسلمون بضوئه فی حیاتهم وسلوکهم دنیا وآخرة. وهذا طرح جدید على مستوى الحیاة الإسلامیة الدینیة اقتضتها ضرورة التجدید وإصلاح حال الأمة الإسلامیة التی جمدت على أفکار لابد من تفعیلها. والجدیر بالذکر أنّ الأمام رکز على أهم مقومات الحج، کما رکّز العلماء الآخرون علیه، لکنه تمیز أن فرّع من تلک المقومات الشرعیة أبعاداً أبعدَ مدىً من المادة الفقهیة والشرعیة، فأقام أسساً جدیدة جمع من خلال المادة الفقهیة بالحیاة العملیة للإنسان، فأخرج بذلک الحج من الفکرة النظریة المجردة إلى واقع عملی یعیشه الإنسان بکلّ جوارحه، وذلک هو ما مارسهُ الأئمة من أهل البیت علیهم السلام، عندما کانوا یعتبرون الحج قاعدة حوار فکری وساحة تربویة ومدرسة علم ومعرفة لکل أبعاد الحیاة وساحة صراع مع شیاطین الإنس والجن، بل کانوا علیهم السلام یعتبرون الحج الساحة التی یریدون للأمة المسلمة أن تسیر فی خطّها الإسلامی المستقیم، فی خطة توجیهیة عملیة شاملة. إن المؤمن الصادق الطموح یجهد نفسه فی أداء مناسک الحج بشکل متقن وصحیح وبنفس طاهرة متعلقة بخالقها ومعبودها ; لأنّ نفسه تنظر إلى المرآة الإلهیة قبل أن تنظر إلى المرآة الاجتماعیة والاقتصادیة وغیرهما ؛ بحیث یکون سلوکه الذاتی والداخلی والروحی مطابقاً للخطاب الشرعی {وأذن فی الناس بالحج یأتوک رجالا وعلى کلّ ضامر یأتین من کلّ فج عمیق}. المفهوم السیاسی للحج فی فکر الإمام الخمینی: إنّ أغلب خطابات الإمام السنویة لحجاج بیت الله الحرام کانت تتناول البُعد السیاسی بالخصوص بعد انتصار الثورة الإسلامیة فی إیران... کان یعرض فیها قضایا الأمة الکبرى ومشاکلها، مستنهضاً المسلمین إلى وجوب التحرک الشامل للتصدی بها، داعیاً إیاهم إلى الوحدة فی العمل والصف والأهداف تحت رایة الإسلام للتخلص من الظلم والاستضعاف والتخلف والتبعیة للاستکبار العالمی، والسعی إلى تحقیق ما من شأنه تعزیز ونشر قیم الله وأحکامه فی الأرض. یقول الإمام الخمینی: "هناک عوامل سیاسیة عدیدة وراء عقد الاجتماعات والمجامع وخاصة اجتماع الحج القیم، والتی منها التعرف على المشاکل الأساسیة والقضایا السیاسیة للإسلام والمسلمین، ولا یمکن ذلک إلاّ باجتماع رجال الدین والمفکرین والملتزمین الزائرین لبیت الله الحرام، وذلک بعرض وبتبادل الآراء لإیجاد الحلول، وفی العودة إلى البلدان الإسلامیة یعرضونها فی المجامع العامة ویسعون فی رفع وحل مشاکلهم". البعد السیاسی للحج: تنطوی شعائر الحج على الکثیر من المضامین العبادیة والدلالات السیاسیة، فی آن معا، وقد کانت القبائل عندما تؤم مکة فی موسم الحج، تحمل کلّ منها أعلامها الممیزة وأصنامها، ومؤکدة بذلک على تمایزها القبلی أو على ترتبها وعلو شأنها بین القبائل الأخرى. ولکن الحج، بعد الدعوة، أرسى مؤسسة جدیدة تتعارض بل تلغی کافة هذه الممارسات والشعائر، خالقة حالة توحیدیة خالصة، تؤمّن للمسلمین إحدى الدعائم التی تجعلهم قادرین على مقاومة الانشدادات المختلفة من قومیة وقبلیة وما إلى ذلک، وعلیه، فالحج کما یتّضح من الکتاب والسنة وسیرة السلف وأقوال العلماء لا یتلخّص فی کونه موسماً عبادیاً (بالمفهوم المألوف عند کثیرین)، بل هو إلى جانب ذلک مؤتمر سیاسی عالمی وملتقى اجتماعی عام یوفّر للمسلمین القادمین من شتى أنحاء المعمورة فرصة التعارف، والتآلف، واللقاء بعضهم ببعض، وانتفاع بعضهم ببعض، ومداولة أمورهم وحل مشاکلهم السیاسیة والاجتماعیة والاقتصادیة فی جو من الأمن والقداسة والصفاء والمحبّة. لقد وصف القرآن الکریم «الحج» فی عدّة مواضع بأنّ فیه ما ینفع الناس ویضمن مصالحهم، کما أنّ السنّة والسیرة النبویة الشریفة هی الأخرى تشیر إلى أنّ النبی صلى الله علیه وآله مارس الأعمال السیاسیة فی الحج، فضلاً عن الأحادیث التی تفید بأنّ الحج نوع من الجهاد کقوله صلى الله علیه وآله: «نعم الجهاد الحج». ولعل ما جاء وصحّ عن الرسول - صلى الله علیه وآله - من الأدعیة والأذکار فی الحج تلک التی تتضمن معانی سیاسیة إلى جانب معانیها التوحیدیة خیر شاهد على أنّ الحج موسم مناسب لأن یظهر فیه المسلمون موقفهم من أعداء اللّه والإسلام .. کالدعاء: «لا إله إلاّ اللّه وحده وحده، أنجز وعده ونصر عبده، وهزم الأحزاب وحده». وقد أشار کثیر من علماء الإسلام والمفکرین الإسلامیین إلى ما ترمز إلیه هذه المناسک من أمور معنویة، واقتصادیة، واجتماعیة وسیاسیة، کما ورد فی البخاری عن سعید بن جبیر عن ابن عباس قال: لما قدم النبی - صلى الله علیه وآله - عامه الذی استأمن فیه (أی قدم مکة للعمرة) قال لأصحابه: امِلوا (أی أسرع فی المشی، وهزّ منکبیه) لیری المشرکین قوتهم. وفی البخاری ومسلم - أیضا - قال ابن عباس: «إنما سعى رسول اللّه - صلى الله علیه وآله - بالبیت وبین الصفا والمروة لیری المشرکین قوته. وهذا یشیر إلى أنه یجوز أن یضم الحاج إلى مناسکه مقاصد سیاسیة وأغراضا جهادیة مثل إرهاب الأعداء واستنکار أعمالهم، وشجب مؤامراتهم وفضح خططهم.. کما یوحی بذلک عمر ابن الخطاب إذ کان یقول إذا کبّر واستلم الحجر: «بسم اللّه واللّه أکبر على ما هدانا، لا إله إلاّ اللّه لا شریک له، آمنتُ باللّه وکفرت بالطاغوت. إنّ التاریخ یحدّثنا أنّ السلف الصالح لم یقتصر فی الحج على المناسک والعبادة، بل استغلوا هذه المناسبة للعمل السیاسی کجزء طبیعی من هذه الفریضة، لا کشیء زائد علیها أو أجنبی عنها، فها هو الإمام الحسین بن علی سبط الرسول (صلى الله علیه وآله) یحتج على حاکم جائر من حکام زمانه فی یوم من أیام الحج. بل ووجد غیر المسلمین فرصتهم فی الحج لیعرضوا على الخلیفة شکاواهم فیقوم الخلیفة بإنصافهم فی زمن الحج، لا بعدئذ، کما هو الحال فی قصة ابن القیطی الذی ضربه ابن عمرو بن العاص (والی مصر یومئذ).. فاقتضى عمر بن الخطاب الذی اقتص من المعتدی على مرأى ومسمع من ألوف الحجیج، وقال کلمته الشهیرة: یا عمرو «متى استعبدتم الناس وقد ولدتهم أمهاتهم أحرارا ؟!». حول هذه الحادثة یعقّب أحد العلماء المعاصرین بقوله: «فإذا کان الحج موسما لبیان الظلامات والشکاوى من الحکام والولاة المسلمین، أفلا یکون من الأوْلى أن یجوز فیه الشکوى من الاستعمار وأذنابه وعملائه، واستنصار المسلمین علیهم ؟ وهل یجوز أن نشکو الوالی المسلم إذ تعدّى حدوده، ولا یجوز أن نشکو المستعمر الظالم والأجنبی الغازی، وهو یرتکب کلّ تلک الجرائم والمجازر ؟. فلسفة الحج عند الإمام: إنّ الدلالات السیاسیة المختلفة التی تتضمنها ظاهرة الحج فی المجتمع الإسلامی تنطوی على سمات خاصة بهذا المجتمع، فالسیاسة لیس مؤسسة قائمة بذاتها ومنفصلة عن باقی جوانب وأبعاد الحیاة الفردیة والجماعیة ؛ بل هی لحظة تتدرج ضمن ممارسة شمولیة متعددة الجوانب، تعطی للنسق السیاسی الإسلامی بعدا توحیدیا متمیّزا. وإذا ما وعینا هذه الحقیقة جیدا نستطیع أن نفهم أهمیّة النداءات والتوجیهات التی أطلقها الإمام الخمینی، بشأن الحج والحجیج، إنّها نداءات وتوجیهات نابعة عن فهم واعٍ حرکی للإسلام، أو هی بعبارة أخرى منطلقة من نظرة واعیة للدور الذی یستطیع الحج أن ینهض به على ساحة التاریخ. ولا بدّ من الوقوف على عمق فلسفة الحج عند الإمام الراحل ؛ فالطواف حول الکعبة یرى فیه الإمام الخمینی رمزا لحرمة «الطواف والسعی حول (أیة مبادئ) غیر مبادئ اللّه، وأن رجم الشیطان هو رمز لرجم کلّ شیاطین الأنس والجن فی الأرض، أیها الحجاج .. اِحملوا من ربکم نداءً إلى شعوبکم، أن لا تعبدوا غیر اللّه وأن لا تخضعوا لغیره». ولا یذهبنّ الظن بالبعض أنّ الإمام الخمینی قد انتبه مؤخراً إلى هذا الفهم، وتحدیداً بعد انتصار ثورته الإسلامیة، بل إنه تصدّى إلى قضایا المسلمین منذ وعى دوره التاریخی، وقبل هذا الزمن بفترة لیست بالقصیرة، ولقد اقترنت اهتمامات الإمام الراحل بموسم الحج باهتماماته الرامیة إلى إصلاح أوضاع المسلمین، وتغییر ما هم علیه من رکود وخنوع وذل واستکانة. الإمام أکّد دوما على ضرورة استثمار هذه الفرص التی وفّرها الإسلام للمسلمین من أجل إعادة الإسلام إلى مسرح الحیاة، وإعادة تکوین الأمة المسلمة الفاعلة على الساحة التاریخیة. یقول الإمام فی بدایة نفیه إلى النجف الأشرف: « فی الدول غیر الإسلامیة تنفق الملایین من ثروة البلاد ومیزانیتها، من أجل عقد مثل هذه الاجتماعات، وإذا انعقدت فهی فی الغالب صوریة شکلیة تفتقر إلى عنصر الصفاء وحسن النیة والإخاء المهیمن على الناس، فی اجتماعاتهم الإسلامیة، ولا تؤدی بالتالی إلى النتائج المثمرة التی تؤدّی إلیها اجتماعاتنا الإسلامیة. وضع الإسلام حوافز ودوافع باطنیة تجعل الذهاب إلى الحج من أغلى أمانی الحیاة، وتحمل المرء تلقائیا إلى حضور الجماعة والجمعة والعید بکلّ سرور وبهجة. فما علینا إلاّ أن نعتبر هذه الاجتماعات فرصا ذهبیة لخدمة المبدأ والعقیدة؛ لنبیّن فیها العقائد والأحکام والأنظمة على رؤوس الأشهاد وفی أکبر عدد من الناس. علینا أن نستثمر موسم الحج، ونجنی منه أطیب الثمار فی الدعوة إلى الوحدة والدعوة إلى تحکیم الإسلام فی الناس کافة، علینا أن نبحث مشاکلنا ونستمد حلولها من الإسلام .. علینا أن نسعى لتحریر فلسطین وغیرها. المسلمون الأوائل کانوا یجنون من جماعاتهم وجمعاتهم وأعیادهم ومواقف حجهم أحسن الثمار». التأکید على الجانب السیاسی والاجتماعی: هذا هو فکر الإمام الخمینی فی کلّ المواقف والمنعطفات، رؤیة ثاقبة واعیة لا تحید عن الإسلام. ولهذا فهو - انطلاقا من فهمه الواعی الصحیح للإسلام - لا ینظر إلى الأحکام نظرة تجزیئیة بل ینظر إلیها باعتبارها کلاًّ واحدا لا ینفصل بعضها عن بعض. الأحکام العبادیة والسیاسیة والاقتصادیة والاجتماعیة والتربویة تقوم على قاعدة واحدة، وترتبط مع بعضها بأواصر وثیقة لتشکّل أساس کیان المسلمین وحرکتهم المتسامیة. یقول الإمام: «کثیر من الأحکام العبادیة تصدر عن معطیات اجتماعیة وسیاسیة، فعبادات الإسلام عادة توأم سیاساته وتدابیره الاجتماعیة .. صلاة الجمعة مثلاً واجتماع الحج والجمعة تؤدی - بالإضافة إلى ما لها من آثار خلقیة وعاطفیة - إلى نتائج وآثار سیاسیة، استحدث الإسلام هذه الاجتماعات وندب الناس إلیها، وألزمهم ببعضها حتى تعم المعرفة الدینیة وتعم العواطف الأخویة، والتعرّف بین الناس، وتنضج الأفکار وتنمو وتتلاقح، وتُبحث المشاکل السیاسیة والاجتماعیة وحلولها». وفی ندائه إلى حجاج بیت اللّه الحرام عام ١٣٩٩هـ قال رحمه الله: «الإسلام دین عبادته سیاسة، وسیاسته عبادة. والآن إذ یجتمع المسلمون من شتى بقاع الأرض حول کعبة الآمال لحج بیت اللّه، وللقیام بالفرائض الإلهیة، وعقد هذا المؤتمر الإسلامی الکبیر .. فی هذه الأیام المبارکة وفی هذه البقعة المبارکة یتوجّب على المسلمین الذین یحملون رسالة اللّه تعالى أن یستوعبوا المحتوى السیاسی والاجتماعی للحج إضافة إلى محتواه العبادی. وفی الوقت الذی یبثّ فیه الإمام الوعی فی أوساط الأمة، مؤکدا أنّ الحج فرصة من فرص العودة إلى الذات... نراه یثیر انتباه جموع الحجیج إلى طریق الخلاص، وما یکتنف العالم الإسلامی من تحدیات: «إنکم تعرفون أنّ القوى الکبرى تنهب ثرواتنا المعنویة والمادیة، وتترکنا فی فقر، تحت سیطرتهم الاقتصادیة والسیاسیة والثقافیة، ولا یمکن التخلّص من هذا الوضع إلاّ بالعودة إلى شخصیتنا الإسلامیة، ورفض الظلم والطغیان من أی مصدر کان، وفضح القراصنة الدولیین وعلى رأسهم أمریکا». وبهذا الهدف الشمولی الإنسانی أعاد الإمام بعث المشروع الحضاری الإسلامی، فمن لوازم عقیدة التوحید إیمان کلّ مسلم «بأنّ الدین الإسلامی سیسود العالم، وسیمحو آثار الکفر والاستکبار عن وجه الأرض». إلاّ أنّ هذا الهدف الاستراتیجی غیر متحقق إلاّ انطلاقاً من تحقیق هدف مرکزی دینامیکی یتمثل فی قیام حکومة إسلامیة تمهیدیة، حیث یمکن للمسلمین أن یقیموها، وحیث تتوفر المناخات والظروف الآیلة إلیها، فکان أول العقد فی إیران، إذ اندلعت الثورة الإسلامیة فیها على یدی الإمام الخمینی نفسه بعد نضوج مقدماتها التکاملیة وجهاد استمرّ متواصلاً جادا على مدى ما یناهز الربع قرن من الزمن. لکن هذه الثورة لم تکن إلاّ الخطوة الأولى فی المشروع الکبیر، بما هی ثورة من أجل العالم الإسلامی، ومن أجل المستضعفین فی العالم فی الوقت نفسه. یقول الإمام: «إنّ هذه الثورة قد قامت بالدرجة الأولى من أجل العالم الإسلامی، وبالدرجة الثانیة من أجل المحرومین والمستضعفین الذین یسعون من أجل تحریرهم.. وبهذا المعنى فإنّ الثورة الإسلامیة الإیرانیة لیست فریدة ومقتصرة على نفسها، بل هی بدایة ثورات تماثلها فی الهویة والمیزات». وهذا یعنی - فیما یعنی - أنّ إیران للإسلام وفی خدمة الإسلام، ولیس العکس، أی أن إیران لیست للإیرانیین، کما یحلو للبعض رفع هذا الشعار، بل إنّ الثورة الإسلامیة قامت من أجل المحرومین والمستضعفین، فهی - حسب الرؤیة الخمینیة - ملاذ لهؤلاء وداعم لهم، فکیف بالمسلمین الذین هم أولى من غیرهم بهذا الحق ؟! کان لا بدّ للثورة «النموذج» من أن تنبعث من مکان جغرافی، شاء اللّه أن یکون إیران (بعدما نضجت فیها مقومات الانتفاض وأسبابه)، لکنها انطلاقة إلى کلّ الأمکنة والى کلّ الشعوب بهدف وحدوی توحیدی هو: «تثبیت واستقرار القیم الإسلامیة وحدها»، ولم یفارق خطاب الإمام التبلیغی هذه المعادلة قط، فلحظ وحدة المشروع مرتبط عنده دائما بلحظ وحدة العالم والإنسان، والمسلمون والمستضعفون فی الأرض هم المکلفون، وهم المعنیون بالتحرک والسعی لإنقاذ حکم اللّه ونظامه، وما المشروع الإلهی إلاّ لاستنهاضهم وتحریرهم من کلّ العبودیات، فهو الهادی المؤدی إلى الحق والعدالة، والقسط وخیر الإنسانیة وهم المهتدون، ودور المبلغین والقادة هو إنجاز الارتباط المعرفی بین مشروع الهدایة والمهتدین العتیدین. الوعی السیاسی للمسلمین: تضافرت جهود ضخمة ومخططات حقودة على تغییب الوعی فی أوساط المسلمین. ولعل موسم الحج - بوضعه الفعلی - أفضل معبّر عمّا یعانیه المسلمون الیوم من سطحیة وضیاع ورکود وتشتت، لا أثر للمنافع التی ذکرها اللّه تعالى فی الآیة الکریمة...«لِیَشْهَدُوا مَنَافِعَ لَهُمْ». لیس هناک أی منافع على صعید التوعیة، ولا على الصعید السیاسی، ولا على الصعید الاقتصادی .. اللهم إلاّ ما یجنیه معسکر الکفر من أرباح اقتصادیة فی هذا الموسم، من خلال تدفّق بضائعه الکاسدة على أسواق مکة والمدینة وجدّة. أکثر حجاج بیت اللّه الحرام تضیع أوقاتهم فی موسم الحج بین أداء جامد غیر واعٍ للمناسک، وبین تجوّل فی الأسواق، وتهافت على شراء البضائع الأجنبیة، وبین جلسات سمر واسترخاء، بأشکال متعددة، هذا هو الذی یعبّر عنه الإمام الخمینی بالغفلة إذ یقول: «لا یمکن للمسلمین أن یحیوا حیاة مشرفة إلاّ بالإسلام، لقد أضاعوا إسلامهم، لقد عُدنا نجهل الإسلام، بسبب إیحاءات الغرب وتشویهاته، ولذلک فإنّ المسلمین یجتمعون کلّ عام فی مکة المکرمة حیث جعلها اللّه ملتقى للمسلمین، لکنهم لا یدرون ماذا یفعلون، لا یستفیدون من هذا الاجتماع إسلامیا، ومثل هذا المرکز السیاسی جعلوه مرکز غفلة عن کلّ مسائل المسلمین، ولو استثمر المسلمون عطاء الحج السیاسی؛ لکان ذلک کفیلاً بتحقیق استقلالهم، لکننا أضعنا الإسلام مع الأسف .. لقد أبعدوا الإسلام عن السیاسة، فقطعوا رأسه وسلّموا لنا بقیته وجرّونا إلى الوضع الذی نعیشه الیوم، وما زال المسلمون على هذه الحالة فلن یستعیدوا مجدهم». إلى هذا المنوال، یستعرض الإمام مظاهر الهجوم الشرس من قبل أعداء الإسلام على العالم الإسلامی، من قبیل ما کان یجری، یومئذ فی أفغانستان، حیث الاجتیاح السوفیتی، وما تشنه الدولة العبریة من هجوم واسع النطاق على المسلمین فی فلسطین العزیزة ولبنان العزیز.. ومع إعلان إسرائیل عن مشروعها الإجرامی بشأن نقل عاصمتها إلى القدس .. وما یقدمه عملاء أمریکا من خدمات کبیرة لتنفیذ مخططها الإجرامی، مع ما یتزامن مع ذلک کلّه من حصار وتآمر ونشر دعایات سوء وأکاذیب وافتراءات ضد الثورة الإسلامیة. وهنا یقول الإمام: "على المسلمین أن یکونوا یقظین أمام خیانات هؤلاء العملاء الأمریکیین بالإسلام والمسلمین". ومتى ما توفر الوعی والیقظة فإنّ قدرا مهما من تفویت الفرصة على أعداء الإسلام یکون قد تحقق على أرض الواقع، وبخلاف ذلک فإنّ المخطط المناوئ للإسلام یشقّ طریقه دون أیة عوائق تذکر، وهذا ما یدلّنا على سر العداء الشدید الذی تکنّه الدوائر الاستکباریة للحرکات الإسلامیة، والتی دأبت على وصفها بالحرکات الأصولیة أو الرادیکالیة أو الإرهابیة. البراءة فی الحج فی فکر الإمام: أحیا الإمام الخمینی رکن البراءة من المشرکین والمستکبرین، وهو رکن ظل منسیا طوال التاریخ، وهی البراءة من أعداء الله وتولی أولیاء الله، وهی التی جاءت فی سورة التوبة، لتعلن ضرورة واجهة الاستکبار، لقد تحولت «البراءة» فی مفهوم وعینا السیاسی الإسلامی إلى رکن من أرکان وجودنا الجهادی... ونتلمس فی حرکة مواجهتنا للأنظمة التابعة ولقوى السیطرة الدولیة حضورا ممیز لعقیدة البراءة، وعلى ضوء فکر هذه النهضة عند الإمام الخمینی، نتلمس أرکان عقیدة البراءة فی محتواها السیاسی وإطارها الحرکی وصلتها بالواقع الإسلامی المعاصر. | ||||
الإحصائيات مشاهدة: 345 تنزیل PDF: 156 |
||||