التعمق فی أساطیر الاحتفال بنوروز | ||||
PDF (1125 K) | ||||
یعقوب یسنا یمکننا أن نعتبر أن الاحتفال بنوروز نابع من ثلاثة مفاهیم اسطوریة مهمة، وبشکل عام فان هذه المفاهیم الاسطوریة معروفة برمتها لدى البشریة، وتعود هذه المفاهیم الثلاثة الى الهویة المشترکة للاساطیر البشریة والتی تأخذ بنظر الاعتبار الهویة الثقافیة المشترکة للبشر بشکل عام.هذه المفاهیم الاسطوریة الثلاث هی: کیف وُجدت الخلقة، والوقت أو الزمن، والزراعة، ونوروز یروی لنا الصورة الرمزیة للوحدة بین هذه المفاهیم الاسطوریة المهمة الثلاثة، حیث استطاع الانسان أن یعبر عنها بشکل عملی من خلال الاحتفال بنوروز. فنوروز یعد بشکل أو بآخر نوع من تجسید بدایة الخلقة، فالعالم یولد من جدید من رحم الصمت والتوقف الشتوی، وکانت ولا تزال الأجواء الشتویة تُبطئ حرکة الحیاة، کما أن الأعشاب مکثت فی جذورها وبذورها، الى جانب أن بعض الکائنات الحیة غطت فی السبات الشتوی ووهنت ولم تعد تشعر بشیء.مع حلول نوروز تبدأ الأعشاب بالنمو وتخرج الکائنات الحیة من وهنها وضعفها، وتزدهر الحیاة من جدید، والأعظم من کل ذلک هو اننا سوف نتمکن من لمس وعیش تجربة الحیاة والخلقة من جدید. مع التوهج والحماس الطبیعی فی نوروز یبدأ الانسان یشعر بالاشیاء والعالم الذی یتسق معه فیتصور أن الزمن رجع الى البدایة، وهی البدایة التی ظهرت مع الخلقة وکانت بدایة العالم معها، وهذا التصور المتسق مع الذات یجعل الانسان یشعر بأن وجوده أیضا بدأ یزدهر وینمو وبذلک فانه یلمس تجربة الخلقة من جدید، وتجربة الحیاة والخلقة من جدید تمنح الانسان امکانیة روایة الخلقة، الأمر الذی کان علیه السومریون، حیث أنهم کانوا یحتفلون بنوروز قبل ألفی عام من المیلاد، وهو الاحتفال الذی یبدأ مع بدئ الخلقة. هذا فیما یتعلق بمفهوم الخلقة والایجاد، أما فیما یتعلق بالزمن والوقت، فإن مفهومه یختلف باختلاف الانسان المعاصر والقدیم والاسطوری، فالانسان المعاصر ینظر للزمن على أنه ینبع من تغیر وتبدل الأشیاء والأمور وهی قضیة فیزیائیة، بینما الانسان القدیم فانه یعتبر الزمن قضیة مستقلة عن سائر القضایا والأمور، ویرى أن الانسان والاشیاء والأمور تنتهی بانقضاء الوقت والزمن، ومن خلال نظرته هذه للوقت والزمن فانه وضع استراتیجیة للزمن والوقت، وهذه الاستراتیجیة تمنح الانسان القدیم امکانیة الحؤول دون انقضاء الزمن والوقت بل اعادته الى ماکان علیه منذ البدایة، البدایة التی کانت فیها الخلقة، وهنا یتحد الزمن مع الخلقة والایجاد، وبذلک لا یمکن فهم الزمن من دون فهم الخلقة والایجاد کما لا یمکن فهم الخلقة من دون فهم الزمن. اعادة الزمن الى البدایة، یضع الانسان من الناحیة النفسیة فی موقع الخلقة والایجاد، وهذا الموقع وهو مفهوم المکان، یکون الزمن والوقت فیه أزلی، والزمن الأزلی هو الزمن المتوقف ویکون کل شیء متصل ومتعلق فیه أزلی، لهذا فان نوروز هو الصورة الرمزیة لعودة الزمن الى بدایة الخلقة والایجاد. مع عودة الزمن الى البدایة فان الانسان یزیل عنه وعن الأشیاء والأمور قوة انتهاء الزمن، ومع زوال قوة وسلطة الزمن سیشعر الانسان بالبقاء والخلود. أما الانسان المعاصر فانه مرتبط بالزمان والمکان، الزمن الذی یرحل ولا یعود، لذلک ومع الأخذ بنظر الاعتبار رؤیة الانسان المعاصر للزمن ورؤیة الانسان القدیم للزمن یمکن معرفة الفرق بین الانسان المعاصر والاسطوری. فالانسان الاسطوری لم یکن تاریخیا، بل لم یکن یعرف شیئا اسمه التاریخ، بل کل شیء لدیه کان مکررا، بینما الانسان المعاصر انسان تاریخی ویؤمن بالتاریخ، ولیس هناک أی شیء فی حیاته مکرر، وانما کل انسان قائم بذاته، وبالتالی فانه لیس تکرار ونسخة عن غیره أو عن شیء آخر. منذ أن علم الانسان وأدرک انه بدس البذرة فی الأرض، فانها ستخرج من الأرض بعد فترة من بقائها فیها، وتخضّر، وربما اکتشاف هذه الحقیقة فی ذلک الوقت کان یعد انجازعظیم وفی نفس الوقت مفاجئا. یعتقد المؤرخون وخبراء الاساطیر أن اکتشاف الانسان علاقة البذرة بالأرض یعد حدثا عظیما فی حیاة الانسان الاجتماعیة والاقتصادیة والفکریة، وذلک لأن الانسان بدأ بالزراعة بعد هذا الاکتشاف، بینما ربطت الزراعة الانسان بموقع جغرافی محدد وخاص فی الأرض، واستطاع المرأ أن یبدأ حیاته القرویة أو المدنیة من خلال هذه العلاقة، وبذلک فانه دخل الى مرحلة جدیدة من حیاته الاجتماعیة تختلف عن السابق. هذه العلاقة بین البذرة والأرض قدمت للانسان فکرة اسطوریة، بحیث یمکنه من استیعاب عالمین، العالم العلوی والعالم السفلی، والعالم السفلی هو عالم الأموات، والعالم العلوی هو عالم الموجودات والکائنات المقدسة، وجعل الانسان هذه الفکرة أساسیة وقام بتصمیم وبناء أفکاره وفقها. هناک بعض المجتمعات تحرق أمواتها، واحراق الموتى له علاقة باساطیر البشر وفکرتهم عن النار، کما أن هناک مجتمعات تدفن موتاها فی الأرض، ودفن الموتى فی الأرض یرتبط بالفکرة الأسطوریة وهی علاقة البذرة مع الأرض، والتی تعنی نقل المتوفی الى العالم السفلی، وشأنه شأن البذرة فانه سیعود بعد فترة، ویمکن أن نتصور العالم السفلی، کأنه رحم المرأة، أو غرفة تحمیض الأفلام، ففیهما یتم تجدید قوى المتوفی لکی یعود الى الحیاة من جدید. الاحتفال بنوروز یرتبط بفهم الانسان للعلاقة بین البذرة والتربة أو الأرض، وهذه العلاقة تقع بشکل طبیعی خلال أحد فصول السنة وهو فصل الربیع، والولادة والنمو یمنح الانسان امکانیة استیعاب فکرة الخلقة والایجاد، فاذا استوعب وأدرک الخلقة فانه سیستوعب ویدرک الزمن، وهو لیس الزمن الممتد الى ما لانهایة، وانما الزمن المتغیر والمکرر، بمعنى آخر انه کلما حل نوروز فان الدورة الزمنیة تکتمل وتعود الى البدایة حتى تصل الى الخلقة والولادة الأزلیة ومن ثم الى النمو. السؤال المطروح، هو، ما حاجتنا للاحتفال بنوروز ولماذا نقیم الاحتفالات فیه؟ ینبغی القول هنا ان الاحتفال بنوروز یعود الى ثقافتنا، وتاریخنا الثقافی الذی یتبلور ویتجلى بشکل واضح عبر الاحتفال بنوروز، بل اننا أمام مسؤولیة ثقافیة وانسانیة للاحتفال بنوروز وتبجیله. الى جانب ذلک فاننا نعیش الیوم عصر الماکنة والصناعة والتکنلوجیا ونعیش اجواء الماکنة والتکنلوجیا، وهاتان أبعدتا الانسان عن الطبیعة، أو لنقل، حدث خلل ما فی العلاقة بین الانسان والطبیعة، وهذا الخلل أدى الی ضعف العلاقة المباشرة والحیة والأصیلة بین الانسان والطبیعة، کما تسبب هذا الخلل أن ینسى الانسان أهمیة علاقته بالطبیعة، لذلک وبما ان الاحتفال بنوروز یرتبط بالطبیعة، فان ذلک یمکنه أن یعید التذکیر للانسان بما تم نسیانه، وربما الاحتفال بنوروز یدفع الانسان الى ازالة العراقیل التی تحول بینه وبین الطبیعة وهذا النسیان، کما أن الاحتفال بنوروز یدفع الانسان الى احترام الطبیعة وسائر الکائنات الحیة. لذلک فان الاحتفال بنوروز فی عصرنا هذا، یمکن أن یعتبر احتفاء بالبیئة والطبیعة.
أن الاحتفال بنوروز نابع من ثلاثة مفاهیم اسطوریة مهمة، وبشکل عام فان هذه المفاهیم الاسطوریة معروفة برمتها لدى البشریة، وتعود هذه المفاهیم الثلاثة الى الهویة المشترکة للاساطیر البشریة والتی تأخذ بنظر الاعتبار الهویة الثقافیة المشترکة للبشر بشکل عام. | ||||
الإحصائيات مشاهدة: 571 تنزیل PDF: 164 |
||||