عید النیروز.. شعائر الفرح | ||||
PDF (1555 K) | ||||
د. نور الدین أبو لحیة عند مراجعة المواقف السلبیة من العید الذی اتفقت علیه الکثیر من الشعوب، والذی یُطلق علیه “ النیروز “ فی المناطق الفارسیة والکردیة، أو “ شم النسیم “ فی مصر، أو “ عید الربیع “ فی الشمال الإفریقی، وغیرها من التسمیات نجدها تعود لسببین: أولهما ـ اعتباره عیداً جاهلیاً، لأن الشعوب کانت تحتفل به قبل الإسلام، ویشارکهم فی ذلک المسیحیون وغیرهم. وقد قال الذهبی فی رسالته “ التمسک بالسنن والتحذیر من البدع” : (أما مشابهة الذمة فی المیلاد، والخمیس، والنیروز، فبدعة وحشة.. فإن فعلها المسلم تدیناً فجاهل، یُزجر ویعلم، وإن فعلها حباً لأهل الذمة وابتهاجا بأعیادهم فمذموم أیضا) . ومثله ورد فی الموسوعة الفقهیة الکویتیة المعاصرة: ( لا یجوز التشبه بالکفار فی أعیادهم، لما ورد فی الحدیث: “من تشبه بقوم فهو منهم”. ومعنى ذلک تنفیر المسلمین عن موافقة الکفار فی کل ما اختصوا به). ثانیهما: اعتبار الأعیاد من جملة الشرع والمناهج والمناسک التی لا یجوز للأمم أن تتوافق علیها، لأن لکل أمة شعائرها الخاصة بها، ویستدلون لذلک بقوله تعالى: ﴿لِکُلِّ أُمَّةٍ جَعَلْنَا مَنْسَکًا هُمْ نَاسِکُوهُ﴾ [الحج: ٦٧]. ویقیسون الاحتفال بالنیروز بالقبلة والصلاة والصیام، ویذکرون أنه لا فرق بین مشارکتهم فی العید وبین مشارکتهم فی سائر المناهج، فإن الموافقة فی جمیع العید موافقة فی الکفر، والموافقة فی بعض فروعه موافقة فی بعض شعب الکفر. ونحن نرى أن کلا السببین غیر معقولین ولا شرعیین، وذلک من خلال الوجوه التالیة: الوجه الأول أننا عندما نرجع إلى القرآن الکریم نجده یعتبر الجاهلیة عبارة عن قیم منحرفة لاعلاقة لها بما أباحه الله من الفرح والسرور والتزین المشروع، کما قال تعالى عند ذکر جاهلیة التصور والاعتقاد: ﴿وَطَائِفَةٌ قَدْ أَهَمَّتْهُمْ أَنْفُسُهُمْ یَظُنُّونَ بِاللَّهِ غَیْرَ الْحَقِّ ظَنَّ الْجَاهِلِیَّةِ﴾ [آل عمران: ١٥٤]. وقال فی جاهلیة الحکم بغیر ما أنزل الله: ﴿أَفَحُکْمَ الْجَاهِلِیَّةِ یَبْغُونَ وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللَّهِ حُکْمًا لِقَوْمٍ یُوقِنُونَ ﴾ [المائدة: ٥٠]. وقال فی جاهلیة التبرج: ﴿وَقَرْنَ فِی بُیُوتِکُنَّ وَلَا تَبَرَّجْنَ تَبَرُّجَ الْجَاهِلِیَّةِ الْأُولَى﴾ [الأحزاب: ٣٣]، وقال فی جاهلیة العصبیة والقومیة: ﴿إِذْ جَعَلَ الَّذِینَ کَفَرُوا فِی قُلُوبِهِمُ الْحَمِیَّةَ حَمِیَّةَ الْجَاهِلِیَّةِ﴾ [الفتح: ٢٦] هذه هی المواضع التی وردت فی القرآن الکریم حول الجاهلیة، وهی عبارة عن قیم منکرة معقولة المعنى، یمجها الطبع السلیم، والفطر الصافیة، والعقول النیرة. أما ما عداها مما لا علاقة له بتلک الانحرافات أو غیرها، فإنه لا یمکن اعتبارها جاهلیة، بل قد تعتبر من الفطرة السلیمة التی فطر الله عباده علیها، ویدل لذلک قول رسول الله (ص): (إنما بعثت لأتمم مکارم الأخلاق). أی أن هناک أخلاقا طیبة کانت موجودة فی الجاهلیة، ولم یأت رسول الله (ص) لإزالتها، وإنما جاء لتأکیدها وإقرارها، وإضافة المزید إلیها. وعند تطبیق موقف رسول الله (ص) على عید النیروز نجد تشابها کبیرا، ذلک أن هذا العید اتفقت علیه أکثر شعوب الأرض.. ولیس فیه أی انحراف فی ذاته، ولذلک من الحرج الکبیر اعتباره من الجاهلیة التی نهت الشریعة عنها. الوجه الثانی وهو ما المانع فی أن یکون لهذا العید أصل شرعی فی الأمم السابقة، أو لدى الأنبیاء السابقین، خاصة وأن کل المؤرخین یذکرون قدم هذا العید، وشموله للبشریة جمیعا، وبأسماء مختلفة، وبذلک یکون من التراث البشری الذی یستحسن الحفاظ علیه، وتوجیهه الوجهة المناسبة. وهذا الأمر لا ینطبق فقط على هذا العید، بل ینطبق على الکثیر من الأفکار التی قالها الفلاسفة أو غیرهم، والتی لا تعارض الإسلام، وقیمه، ذلک أنه من الصعب اعتبارها تراثاً منحرفاً، أو من آثار الجاهلیة، بل قد تُعتبر من التراث الذی انتقل للأمم السابقة عن طریق الأنبیاء علیهم السلام أو غیرهم من الهداة، ولذلک، فإن العاقل الحکیم ینظر إلى الأشیاء من حیث مصالحها ومفاسدها، لا من حیث من انتسب لها أو ادعاها، فقد یدعی المبطل الحق، وقد یقع المحق فی الباطل. ولهذا ورد فی الأحادیث ، الأمر بالبحث عن الحکمة والأخذ بها ، کما قال رسول الله (ص): ( الحکمة ضالة المؤمن، فحیث وجدها فهو أحق بها) . والحکمة الموجودة فی عید النیروز، والتی یمکن الاستفادة منها ذات وجوه متعددة، وأولها تحقیق التآلف بین البشر، والذی یحقق قوله تعالى: ﴿یَا أَیُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاکُمْ مِنْ ذَکَرٍ وَأُنْثَى وَجَعَلْنَاکُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَکْرَمَکُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاکُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلِیمٌ خَبِیرٌ﴾ [الحجرات: ١٣]. ذلک أن التآلف مقدمة التعارف، ومن الحرج الکبیر أن یخالف المسلم غیره فی الفرح بمناسبة معینة، لا لانحراف وُجد فیها، وإنما فقط لکونهم یفرحون.. وکأن الشریعة طلبت منا أن نحزن لفرح الآخرین، لا أن نشارکهم فرحهم، ثم نستثمر ذلک الفرح فی التواصل والتآلف الذی هو مقدمة الدعوة إلى الله، فلا یمکن أن ندعو أحدا ونحن ننفر منه أو نمارس ما ینفرنا منه، وقد قال تعالى: ﴿فَبِمَا رَحْمَةٍ مِنَ اللَّهِ لِنْتَ لَهُمْ وَلَوْ کُنْتَ فَظًّا غَلِیظَ الْقَلْبِ لَانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِکَ فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاسْتَغْفِرْ لَهُمْ وَشَاوِرْهُمْ فِی الْأَمْرِ فَإِذَا عَزَمْتَ فَتَوَکَّلْ عَلَى اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ یُحِبُّ الْمُتَوَکِّلِینَ﴾ [آل عمران: ١٥٩]. ومن الحکم الموجودة فی عید النیروز الاهتمام بالجمال الذی بثه الله تعالى فی الکون، وهو مطلب شرعی نصت علیه الآیات الکثیرة التی تأمر بالنظر فی الحدائق الغناء والثمار الیانعة للتعرف على الله من خلالها، کما قال تعالى: ﴿وَهُوَ الَّذِی أَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَخْرَجْنَا بِهِ نَبَاتَ کُلِّ شَیْءٍ فَأَخْرَجْنَا مِنْهُ خَضِرًا نُخْرِجُ مِنْهُ حَبًّا مُتَرَاکِبًا وَمِنَ النَّخْلِ مِنْ طَلْعِهَا قِنْوَانٌ دَانِیَةٌ وَجَنَّاتٍ مِنْ أَعْنَابٍ وَالزَّیْتُونَ وَالرُّمَّانَ مُشْتَبِهًا وَغَیْرَ مُتَشَابِهٍ انْظُرُوا إِلَى ثَمَرِهِ إِذَا أَثْمَرَ وَیَنْعِهِ إِنَّ فِی ذَلِکُمْ لَآیَاتٍ لِقَوْمٍ یُؤْمِنُونَ﴾ [الأنعام: ٩٩] . وبذلک فإن عید النیروز مناسبة للدعوة للاهتمام بالبیئة والحرص على جمالها، ومواجهة کل المؤامرت التی تتعرض لها، والتی اعتبرتها الشریعة من الفساد فی الأرض، کما قال تعالى: ﴿ظَهَرَ الْفَسَادُ فِی الْبَرِّ وَالْبَحْرِ بِمَا کَسَبَتْ أَیْدِی النَّاسِ لِیُذِیقَهُمْ بَعْضَ الَّذِی عَمِلُوا لَعَلَّهُمْ یَرْجِعُونَ﴾ [الروم: ٤١] . ولذلک، فإن المسلم أولى الناس بأن یحمل رایة الحفاظ على البیئة، والدعوة إلى الاهتمام بالطبیعة وجمالها، بل أول المتذوقین لذلک الجمال، لأنه یربطه بإیمانه ومعرفته بالله تعالى، فجمال الکون دلیل دعلى جمال المکون والمبدع. الوجه الثالث وهو فی الجواب على ما ذکره المعارضون للاحتفال بعید النیروز، بسبب ارتباطه بشعائر الدین، وهذا موقف عجیب ومتناقض فی نفس الوقت، ذلک أنهم ینکرون النیروز باعتباره عیداً جاهلیاً، أی تمارس فیه طقوس الجاهلیة وشرکها، فإذا ما جاء من یعدل فی تلک الشعائر، ویحولها إلى التوحید والإیمان اعترضوا علیه بکون ذلک بدعة، وشعائر جدیدة فی الدین. وهذا بسبب سوء فهمهم لمعنى الشعائر.. ذلک أن المقصود منها العبادات التوقیفیة المضبوطة، أما ما عداها من الأدعیة والأذکار والممارسات التی لا علاقة لها بتلک العبادات، فإنه لا حرج فیها، لأن الدعاء ورد الأمر به مطلقاً من غیر تحدید، لا لزمانه، ولا لصیغته. فلذلک ما المانع فی أن یدعو المسلم فی ذلک الیوم بهذا الدعاء: ( یا مقلب القلوب والأبصار ، یا مدبر اللیل والنهار ، یا محول الحول والأحوال ، حول حالنا إلى أحسن الحال)، فهو دعاء توحیدی متوافق مع کل الأدعیة الشرعیة، وفی نفس الوقت یحمی المؤمن من الرؤیة الجاهلیة الشرکیة لما یحصل فی الکون من أحوال وتقلبات؟.. وهل یمکن أن یقول عاقل: یمکنک أن تدعو بهذا الدعاء فی کل الأیام ما عدا یوم النیروز؟. بالإضافة إلى ذلک ما المانع أن یغتسل المؤمن فی ذلک الیوم ویتطیب ویلبس أحسن ثیابه، فذلک کله من الزینة المشروعة، وخاصة إذا لم ترتبط بالفخر والخیلاء؟ . وهکذا یقال فی کل الطقوس، حتى تلک التی جرت علیها بعض الأعراف، ما دامت لا تمس صمیم التوحید والإیمان والقیم الأخلاقیة. ذلک أن تلک الشعائر هی فی حقیقتها شعائر الفرح، والإسلام لم یحرم علینا شعائر الفرح، والطقوس التی نمارسها عندها ما دامت لا تمس حمى التوحید، وقد قال تعالى: ﴿قُلْ بِفَضْلِ اللَّهِ وَبِرَحْمَتِهِ فَبِذَلِکَ فَلْیَفْرَحُوا هُوَ خَیْرٌ مِمَّا یَجْمَعُونَ﴾ [یونس: ٥٨] . | ||||
الإحصائيات مشاهدة: 631 تنزیل PDF: 160 |
||||