مشکلة المرأة مأزق فکر أم مأزق مفکّر | ||
من الغریب، بحسب مقاییس الإنسانیة والإسلام، أن تولد، فی الفکر البشری، مشکلة اسمها مشکلة المرأة وحقوقها. أمَّا غرابتها، بمقاییس الإنسانیة، فلأنّ الإنسانیة مدینة بوجودها لکلا الجنسین: الرجل والمرأة. وبالتالی من الطبیعی أن یکونا بمنزلة واحدة، وتکون المشکلة هی مشکلة الإنسان نفسه لا الرّجل ولا المرأة. أمّا غرابتها، بمقاییس الإسلام؛ فلأن النّص الإسلامی الأول، وهو القرآن الکریم، أعطى للمرأة مکانة مساویة للرجل فی تشکیل الإنسانیة وخروجها إلى عالم الوجود، عندما قال تعالى: ((یَاأَیُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّکُمُ الَّذِی خَلَقَکُم مِن نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالاً کَثِیراً وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللّهَ الَّذِی تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحَامَ إِنَّ اللّهَ کَانَ عَلَیْکُمْ رَقِیبَاً)) (آل عمران: 1)؛ إذا إنّ التأمل فی هذه الآیة یعلمنا أن أصل البشریة یرجع إلى نفس واحدة، وبالتالی لافضل لرجل على امرأة فی مراحل التناسل البشری اللاحقة. ولا أحسب أن الفهم الحرفی لهذه الآیة یعطی للرجل میزة على المرأة. ولکن، بعد أن اختلط الماء النّأزل من السماء (الوحی القرآنی) بنبات الأرض (الفهم الإنسانی للنّص والاجتهادات النّابتة على ضفافه)، بدأت تتشکّل البواکیر الأولى لمشکلة المرأة فی الفکر الإنسانی والإسلامی. فعلى الصّعید الإنسانی، أسّس النّص الدینی الیهودی هذه المشکلة عندما رأى أنّ المصدر الأوّل للخطیئة فی عالم الوجود هو استجابة المرأة لوسوسة إبلیس، ما دفعها إلى إغواء زوجها بالأکل من الشجرة التی نهیا عن الأکل منها: ((فرأت المرأة أن الشجرة جیدة للأکل، وأنّها بهجة للعیون، وأن الشجرة شهیة للنظر، فأخذت من ثمرها، وأکلت وأعطت رجلها أیضا معها فأکل))، أمّا فی النص الإسلامی فنجد عرضاً آخرا لهذه القضیة، لاتتحمّل فیه المرأة مسؤولیة خاصّة عن هذا الفعل، یقول الله تعالى: ((وَقُلْنَا یَاآدَمُ اسْکُنْ أَنْتَ وَزَوْجُکَ الْجَنَّةَ وَکُلَا مِنْهَا رَغَداً حَیْثُ شِئْتَما وَلَا تَقْرَبَا هَذِهِ الشَّجَرَةَ فَتَکُونَا مِنَ الظَّالِمِینَ * فَأَزَلَّهُمَا الشَّیْطَانُ عَنْهَا فَأَخْرَجَهُمَا مِمَّا کَانَا فِیهِ وَقُلْنَا اهْبِطُوا بَعْضُکُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ وَلَکُمْ فِی الْأَرْضِ مُسْتَقَرٌّ وَمَتَاعٌ إِلَى حِینٍ)) (بقرة: 35 و 36) ولایهمّنا فی هذه المقالة البحث عن دوافع الأهداف الکامنة وراء الدّعوة إلى تحریر المرأة وطبیعتها، ولا ما إذا کان أصحاب هذه الدعوة نجحوا فی دعواهم هذه أم لا، وإنما نکتفی بالإشارة إلى أنهم ربما فکوا للمرأة بعض قیودها التی کبّلتها لسنوات، ولکنهم أثقلوا جیدها بقیود من نوع جدید. ووصل الأمر ببعضهم إلى أن حرّروها ومن کل شیء حتى من إنسانیتها، فصارت ((الإنسانة)) إلى جانب الإنسان امرأة فی مقابل الرجل. وعلى أیّ حال، ساء وضع المرأة تحت ضغط عوامل کثیرة تحتاج دراستها إلى أبحاث مستقلّة، ولکن لایأبى المقام الإشارة إلى شیء منها، أو من مفاعیلها، ربما یقال: إن ضعف المرأة الجسدی أدى إلى سیطرة الرجل على الموقف لیکون هو السید المطلق والآمر الناهی. ربما یکون لهذا العامل لدوره، ولکنّنا نحسب أن القوة الجسدیة لایمکن أن تکون عاملاً أساساً ما لم تقترن بعوامل مساندة منها: العادات والتقالید الاجتماعیة وما إلى ذلک من أسباب أصیلة وفرعیة تراکمت، فأنتجت هذا البؤس الذی لاأحسب أن دعوات التحریر أسهمت فی رفعه وإن غیّرت ظاهرة أحیاناً. والمقاربة التی أود طرحها، فی هذه الصفحات، ولو بدا فیها شیء من الاستطراد هی: یوجد فی التراث الإسلامی دعوتان إلى تحریر الإنسان ذکراً کان أم أنثى، إحداهما تقول: ((متى استعبدتم الناس وقد ولدتهم أمهاتهم أحراراً))، والأخرى تناشد الطرف الآخر فی عملیة الاستعباد هذه لتقول له: ((لاتکن عبد غیرک وقد جعلک الله حراً)). والمقارنة بین هاتین الدعوتین تضطرنی إلى ترجیح کفّة الدعوة الثانیة؛لأنها تتوجه إلى موضوع الاستعباد، لتدعوه إلى ممارسة فعل التحرّر من داخله، وهذا من شأنه أن یؤسّس لفعل منتج مجدٍ. بینما الدعوة الأولى تتوجه إلى الفاعل الذی لایُرجى، فی کثیر من الأحیان، امتناعه عن الاستعباد، إن وجد موضوعاً لممارسة فعله فی الواقع الاجتماعی. وبخاصة إذا قبلنا قول المتنبی الذی یرى: والظلم من شیم النّفوس فإن تجد ذا عفة فلعلة لایظلم وقد یکون المرء من دون سید إلا أنه یحمل روحیة العبد، وبذور العبودیة تنتظر زخّة مطر لتنبت عندما تکون محتضنة فی تربة صالحة. ولعلّ هذا التصوّر هو الذی کان یحمله مالک بن نبی، عندما تحدّث عن خصوصیة قابلیة الاستعمار فی نفوس افراد الأمة الإسلامیة. وبالرجوع إلى موضوع کلامنا، ندّعی أنّ کلّ دعوات تحریر المرأة والنهوض بواقعها لن تجدی إن لم تکن نابعة من الداخل، ولعلّ ذلک الإحصاء الذی تداولته الصحف منذ مدة یؤیّد ما ندّعیه، فقد أشارت نتائج أحد استطلاعات الرأی إلى اعتقاد أغلب النساء، فی إحدى الدول العربیة، استحقاق المرأة للضّرب من زوجها. وفی حالة کهذه، أیُّ محاولة لمنع العنف توصل إلى مبتغاها ما دام المضروب راضیاً بالضّرب مرحباً بممارسة العنف علیه؟ إذاً، لیس تحریر المرأة کسراً لقیود فحسب، بل إرادة اسیر بعد انکسار القید. فما الذی یمنع المرأة من الاسر حتى لو کسر القید وانفصمت عراه؟ أعتقد أن الجهل هو الصّفة الأبرز والتربة الأصلح لاحتضان بذور العبودیة فی مکامن النفس الأنثویة، والمقصود من الجهل عنوان عام یشمل جهل المرأة بواقع حالها، کما بسبل تحرّرها، وهذا هو الذی یجعلها تستبدل أحیاناً قیداً بقید وأسراً بأسر آخر، وآسراً بثانٍ ربما کان أسوأ من الأوّل. دعوات التحریر کثرت دعوات تحریر المرأة، کما کثر دعاتها وتعدّدت المنطلقات، فمنهم من حسب أن أوّل درجة فی سلّم الوصول إلى قلّة الحریة هو تحریر الجسد، فجرت الدعوة لإطلاقه من عقاله، وقد حملت بدایات القرن الماضی إلینا إرهاصات، بل محاولات جدّیة لتحریر الجسد النسائی وصلت فی الغرب إلى حدود تفوق ما کان متوقّعاً أو ربما مراداً، فزادت وتیرة هذا التحریر إلى أن صدقت فیه المقولة المعروفة: ((إذا زاد الشیء عن حدّه انقلب إلى ضدّه))، فسلّعت المرأة وعرّیت لمصلحة الرجل وخدمة أغراضه التجاریة والاقتصادیة کما نزواته. ویبدو أن الحرکات المتهمة بالمرأة وحقوقها بدأت تعی خطورة هذه الممارسات على شأن المرأة، وأقرب الاحتجاجات عهدا بکتابة هذه السطور ردة فعل بعض الحرکات النسویة على استخدام صورة المرأة شبه عاریة فی حملة دعائیة تهدف إلى حمایة السلاحف البحریة المهدّدة بالانقراض، نتیجة اعتقاد خاطئ یؤدی ببیضها إلى أفواه متعطّشة إلى مزید من الشبق الحیوانی. وربما یقال فی التحریر الجسدی: إنّه خیار تمارسه المرأة بمحض إرادتها، ولکن وعی دور وسائل الإعلام والاتصال الجمعی یسقط مقولة الاختیار الواعی، بعد أن تضیع الخیارات تحت وطأة التوجیة والتلقین،فلایبقى إلى ثمالة من کأس الحریة لاتسمن ولاتغنی من جوع. أضف إلى ذلک أن بعض الدول الغربیة لم تعد تتعامل مع اللّباس بوصفه خیارا یمارسه الإنسان بالشکل الذی یرید، وعلى رأس هذه الدول فرنسا التی منعت الحجاب فی المدارس تحت حجج ربما لاتقنع أصحابها، فضلا عن غیرهم. وإذا انتقلنا إلى الضفة الإسلامیة من العالم، فإننا نجد أن بعض محاولات التحریر قد بدأت بشکل خاطئ واستعبادی؛ وذلک کما فی أنموذجی ترکیا أتاتورک وإیران رضا بهلوی. وعلى المستوى الفکری جرت محاولات لتحریر المرأة من الحجاب من قبل مفکّرین رأوا فی الحجاب معوّقا للمرأة عن الدخول إلى میدان العلم، ومن هؤلاء وربما أبرزهم قاسم أمین، على خلاف فی فهم مراده من الحجاب. وخلاف آخر فی شأن حیازته قصب السبق فی هذا المیدان حیث یدّعی بعضهم السبق للکاتبة زینب فواز. ولاأرید، فی هذه المقالة، الدخول فی تقییم محاولات تطویر واقع المرأة العربیة والمسلمة ولامقارنتها بأختها الغربیة، وإن کنت أعتقد أن لکلّ مشاکله الخاصة به کما إنجازاته. ولکننی أعاود القول مصرًّا على أنّ تحریر الإنسان رجلاً کان أم امرأة هو الهدف الأول، فالرجل غیرالحر الذی یعیش فی کهوف التقالید أحیانا تحت اسم الدین، لایقبل ولا یسمح إن استطاع بتحرّر المرأة، وکذلک العکس فإن المرأة، وکذلک العکس فإن المرأة غیرالحرّة لاتربّی إنساناً حرّاً ذکراً کان أم أنثى. إذاً، المطلوب هو حرّیة الإنسان شریطة أن تکون هذه الحریة مفتوحة على الأفق الرحب للقیم الدینیة الصافیة، ومنسجمة مع مصلحة الإنسان فی دنیاه وآخرته. ولیست الحریة کسر قیود من دون هدف، بل رغبة جامحة بالسیر إلى هدف محدّد.ولیست الحریة انعتاق جسد بل هی روح تسمو إلى الأعلى، فإن مائة قید وألف ثوب لاتکفی لاستعباد حر، وعری وتفلت من القیود لایحرّران روحاً تعیش فی کهوف العبودیة المظلمة وتعانی مرارتها، من دون أن ترید الخروج والفکاک من الأسر. هذا، ورغم الإصرار على وجدانّیة التحرّر وبنائه على وعی مشرق بما یرید الإنسان لنفسه ووعی بما یریده الله له کذلک، فإنّ مجموعة من القوانین والإجراءات والتحرکات قد تکون مفیدة وداعمة لهذه الصیرورة الوجدانیة. ومن هنا حاولنا، فی ما یأتی من دراسات، عرض الحرکة النسویة تاریخاً وفکراً، للوقوف على حجم ما أهدته للمرأة الغربیة من تشریعات وفکر وأدب، محاولین عرض نواظمها الفکریة فی دراسات مقارنة تقییمیة، للوصول إلى تصوّر واضح عن موقف الإسلام من هذه النّواظم وتحدید موارد اللّقاء وموارد الافتراق. سفینة، یکن لک مجذافا.
محمد حسن زراقط
| ||
الإحصائيات مشاهدة: 2,533 |
||