الطفل وحقّ الإشباع العاطفی | ||
الطفل وحقّ الإشباع العاطفی الشیخ حسین الخشن
إنّ ثنائیة تکوین الإنسان من جسدٍ وروح تحتّم علیه توزیع الاهتمام بنفسه على هذا الأساس، فکما أنّ علینا الاهتمام بصحّتنا الجسدیة والنفسیة فإنّ علینا الاهتمام بأرواحنا وقلوبنا، وهذا ما تقتضیه النظرة الإسلامیة التی تدعو إلى توفیر متطلّبات کلّ من الجسد والروح فی توازن کامل، کشرط لنجاح العملیة التربویة. حبّ الأطفال وفق المبدأ المتقدّم یکون لزاماً علینا أن نعمل على تأمین الظروف الملائمة والوسائل المناسبة لإشباع الطفل عاطفیاً، کما نهتم به صحیّاً ونوفّر الظروف الملائمة لنموّه الجسدی، وإنّ حاجة الطفل إلى الغذاء الروحی والإشباع العاطفی لا تقلّ عن حاجته للغذاء المادی، بل إنّ حاجته لذلک أشدّ من حاجة البالغ أیضاً، ولا شکّ أنّ لهذا الأمر تأثیرًا مباشرًا على مستقبل الطفل واستقراره النفسی والاجتماعی، والأکید أیضاً أنّ الأطفال الذین یُحرَمون من الشحنات العاطفیة اللازمة سیعانون عاجلاً أم آجلاً من الأمراض النفسیة والاجتماعیة، بما یُعقِّد حیاتهم ویصیبهم بالجفاف الروحی وینعکس على سلوکهم فی ممارسات عنیفة وخاطئة، من هنا لم یکن مستغرباً أن تعتبر بعض الروایات حبّ الأطفال من أفضل الأعمال العبادیة، لما للحبّ من تأثیر تربوی فی رعایة الطفل وحمایته فضلاً عن کونه ــ أعنی الحبّ ــ تعبیراً صادقاً عن إنسانیة الإنسان، ففی الحدیث أنّ موسى (ع) قال: "یا ربّ أیّ الأعمال أفضل عندک؟ قال: حبّ الأطفال فإنّی فطرتهم على توحیدی فإن أمَتُّهم أدخلهم جنّتی برحمتی"(1)، وفی خبر آخر: "إنّ الله لیرحم العبد لشدّة حبّه لولده"(2). شروط تأمین الإشباع العاطفی وممّا لا شکّ فیه أنّ استقرار الحیاة الزوجیة والأُسریّة یساعد على ترعرع الطفل فی حضن أبویه مستشعراً دفء الأسرة وحنوّ الأب وحمایته وحنان الأم وحضانتها، کما أنّه السبیل الأمثل لإشباع الطفل عاطفیاً ومعنویاً، أمّا إذا حصل التفکُّک والتصدُّع داخل الأسرة بالطلاق أو الشقاق فإنّ الطفل سیکون الضحیة الأولى لذلک، بسبب ما سیتعرّض له من اختلال أو نقص عاطفی لا تجبره عاطفة الأم البدیلة أو الأسرة الثانیة أو الحاضنة والمربیّة. وقد فرض تطوّر الحیاة ظروفاً جدیدة حملت معها الکثیر من التأثیرات السلبیة على نمو الطفل فی الحضن الطبیعی المؤهّل لرفده وإمداده بما یحتاجه من مشاعر عاطفیة، ومن هذه التطورات خروج المرأة إلى میدان العمل بشکل واسع وابتعادها یومیاً ولساعات طویلة عن طفلها ووضعه بین یدیّ الخادمات، الأمر الذی قلَّص من المنسوب العاطفی اللازم له، حتى صرنا نقرأ أو نسمع عن تعلّق الأطفال بالخادمات أکثر من الأُمهات، ما یفرض على الأم العاملة أن توازن بین عملها وبین تربیة أبنائها وحاجتهم لحنانها ولرعایتها، کما أنّ ابتعاد الأم ــ وبدافع الحرص على أناقتها وصحّتها الجمالیة ــ عن الإرضاع الطبیعی أَفْقَدَ الطفل غذاءً عاطفیاً کما أفقده غذاءً مادیاً ضروریاً له، والحرص المذکور وإنْ کان مشروعاً ولکنّه قد یکون مبالَغاً فیه فی بعض الحالات. وما یتعرّض له الطفل من نقص عاطفی من جهة الأم یتعرّض لمثله من جهة الأب أیضاً، لاعتبارات أخرى منها: شعور بعض الآباء بأن رجولیّته لا تسمح له بإظهار محبّته للطفل أو ملاعبته له، على اعتبار أن ذلک یسقط مهابته. ومنها: ابتعاد الکثیر من الآباء عن الأسرة وشؤونها إمّا بداعی السفر أو بسبب الاستغراق المضنی فی العمل أو غیر ذلک من الأسباب، وقد حدّثتنا المصادر التاریخیة عن بعض النماذج الرجالیة القاسیة قلوبهم إلى مستوى أنّه لم یکن لدیهم استعداد حتى لتقبیل أطفالهم، ففی الحدیث عن رسول الله (ص) أنّه قبَّل الحسن والحسین علیهما السلام فقال الأقرع بن حابس: إنّ لی عشرة من الأولاد ما قبَّلت واحداً منهم! فقال (ص): "ما علیَّ إن نزع الله الرحمة منک"(3). إرشادات فی التربیة العاطفیة تنصّ التعالیم الإسلامیة على مجموعة من الإرشادات التی تُوفِّر ــ فی حال اتّباعها ــ للطفل ما یحتاجه من الرصید العاطفی: 1 ــ تقبیل الطفل واحتضانه: تحثّ الروایات وتوصی بتقبیل الأطفال ومعانقتهم، وذلک ــ بطبیعة الحال ــ یمدّ الطفل بالحنوّ ویمنحه العاطفة ویشعره بالأمان، ففی الحدیث عن الإمام الصادق (ع) قال: قال رسول الله (ص): "مَن قبَّل ولده کتب الله له حسنة ومَن فرَّحه فرَّحه الله یوم القیامة.."(4)، وقد حدّثنا أمیر المؤمنین (ع) عن سیرة رسول الله وأسلوبه التربوی الذی اتّبعه معه عندما کان صغیراً قال (ع): "وقد علمتم موضعی من رسول الله (ص) بالقرابة القریبة والمنزلة الخصیصة، وضعنی فی حجره وأنا ولد یضمّنی إلى صدره ویکنفنی إلى فراشه ویمسّنی جسده ویشمّنی عرفه (رائحته الذکیّة) وکان یمضغ الشیء ثمّ یلقمنیه"(5). إنّ ابتعاد الرجل أو المرأة عن تقبیل الطفل أو الحنوّ علیه یکشف عن قساوة فی القلب غیر مبرّرة، والله یبغض القاسیة قلوبهم، ففی الحدیث جاء رجل إلى النبیّ (ص) فقال: ما قبَّلت صبیّاً لی قط، فلّما ولّى قال رسول الله (ص): "هذا رجل عندی أنّه من أهل النار"(6). ولذا یجدر بالأهل والمربّین أن یعتنقوا الطفل بین الفینة والأخرى ویحتضنوه ویقبِّلوه، فإنّ ذلک یساهم بشکل ملحوظ فی نجاح العملیة التربویة، وهذا ما فعله رسول الله (ص) فی تربیته لأبنائه وبناته، وکذا فی تربیته لعلیّ (ع) عندما ضمّه إلیه تخفیفاً على عمّه أبی طالب رضی الله عنه.
2 ــ ملاعبته: إنّ ملاعبة الطفل ومداعبته تمدّه بمخزون عاطفی وهو أحوج ما یکون إلیه، ولهذا فعندما یقول النبیّ (ص) ــ فیما روی عنه ــ "مَن کان له صبی فلیتصابَ معه"(7)، فذلک لا یرجع إلى حاجة الطفل للمرح واللهو فحسب، بل إنّ التصابی معه یمنحه شحنات من العاطفة التی یحتاج إلیها، وقد کان النبیّ (ص) نفسه یُلاعب الحسنین علیهما السلام وهما طفلان، ففی الحدیث عن سفیان الثوری عن أبی الزبیر عن جابر قال: دخلت على النبیّ (ص) والحسن والحسین على ظهره وهو یجثو لهما ویقول: "نِعم الجمل جملکما ونِعم العدلان أنتما" (8). 3 ــ إرضاؤه: إنّ السعی لإرضاء الصغیر وجبر خاطره هو الآخر أمر محبوب عند الله، ففی الخبر: "أنّ رسول الله (ص) خرج على عثمان بن مظعون ومعه صبی له صغیر یلثمه فقال: ابنک هذا؟ قال: نعم، قال: أتحبّه یا عثمان؟ قال: إی والله یا رسول الله إنّی أحبّه، قال: أفلا أزیدک حبّاً له؟ قال: بلى فداک أبی وأُمّی، قال: إنّه مَن یرضی صبیّاً له صغیراً مِن نسله حتى یرضى تَرَضَّاه الله یوم القیامة حتى یرضى"(9).
حضانة الأُم وتبقى حاجة الطفل إلى عطف أُمّه وحنانها هی الحاجة الملحّة التی لا یستغنی عنها، حتى أنّه لو شبَّ وأصبح رجلاً فإنّه یظلّ یشعر بالحنین إلى حضنها الدافئ، وقد قال بعضهم "حبّ الأُم لا یشیخ أبداً"، وإدراکاً منه لهذه الحقیقة نصّ التشریع الإسلامی على ما یلی: أولاً: الأُم أحق بإرضاع ولیدها من غیرها، فلو أراد الأب استرضاع امرأة أخرى کانت الأُم أولى منها ما لم تطلب عوضاً مالیاً زائداً على ما تطلبه المرضعة الأخرى، قال تعالى: {وَالْوَالِدَاتُ یُرْضِعْنَ أَوْلاَدَهُنَّ حَوْلَیْنِ کَامِلَیْنِ لِمَنْ أَرَادَ أَن یُتِمَّ الرَّضَاعَةَ} [البقرة:233]، وحقّ الأُم وأولویّتها بإرضاع ولیدها ثابت وباقٍ حتى لو طُلِّقت وانفصلت عن زوجها، ففی الخبر الصحیح عن الإمام الصادق (ع): "الحبلى المطلّقة ینفق علیها حتى تضع حملها وهی أحقّ بولدها حتى ترضعه بما تقبله امرأة أخرى إنّ الله تعالى یقول: {لاَ تُضَآرَّ وَالِدَةٌ بِوَلَدِهَا}(10). وثانیاً: هی أحقّ بحضانة ولدها ــ ولو لم ترضعه ــ من الأب، وحقّها فی الحضانة والرعایة هذا ثابت فی فترة الرضاع، وأمّا بعدها فیختلف الفقهاء بین مَن یرى أنّها تبقى أحقّ به ــ ذکراً کان أو أُنثى ــ إلى أن یبلغ السابعة، ومنهم مَن یرى أنّ ذلک هو الأفضل والأولى، ومنهم من فصّل بین الذکر والأُنثى، فرأى أنّها أحقّ بالأُنثى إلى السابعة، وبالذکر مدّة الرضاعة، والقول الأول هو الذی اختاره بعض فقهائنا المعاصرین ودلّت علیه الروایات، کما فی الخبر الصحیح لأیوب بن نوح قال: کتبت إلیه مع بشر بن بشّار: جعلت فداک رجل تزوّج امرأة فولدت منه ثمّ فارقها متى یجب أن یأخذ ولده؟ فکتب (ع): "إذا صار له سبع سنین، فإنْ أخذه فله، وإنْ ترکه فله"(11)، والتحقیق الفقهی فی هذه المسألة موکول إلى محلّه. من کتاب "حقوق الطفل فی الإسلام" ________________________________________ (1) المحاسن: 1/293. (2) الکافی: 6/50. (3) روضة الواعظین: 369. (4) الکافی: 6/49. (5) نهج البلاغة: 2/157. (6) الکافی: 6/5. (7) مَن لا یحضره الفقیه: 3/484. (8) مناقب آل أبی طالب: 3/158. (9) کنز العمال: 16/585. (10) الکافی: 6/103. (11) الوسائل: 21/473، الباب 81 من أبواب أحکام الأولاد، الحدیث 7. | ||
الإحصائيات مشاهدة: 2,200 |
||