فی رحاب شهر الله تعالى | ||
فی رحاب شهر الله تعالى الشیخ جعفر سبحانی
(شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِی أُنْزِلَ فِیهِ الْقُرْآنُ هُدًى لِلنَّاسِ وَبَیِّنَاتٍ مِنَ الْهُدَى وَالْفُرْقَانِ) (البقرة/ 185). "أیها الناس قد أقبل إلیکم شهر الله بالبرکة والرحمة والمغفرة، شهر هو عند الله أفضل الشهور، وأیّامه أفضل الأیّام، ولیالیه أفضل اللیالی، وساعاته أفضل الساعات. هو شهر دعیتم فیه إلى ضیافة الله، وجعلتم فیه من أهل کرامة الله. أنفاسکم فیه تسبیح، ونومکم فیه عبادة، وعملکم فیه مقبول، ودعاؤکم فیه مستجاب. فاسألوا الله ربکم بنیات صادقة وقلوب طاهرة أن یوفقکم لصیامه وتلاوة کتابه، فانّ الشقی من حُرم من غفران الله فی هذا الشهر العظیم، واذکروا بجوعکم وعطشکم فیه جوع یوم القیامة وعطشه، وتصدقوا على فقرائکم ومساکینکم، ووقّروا کبارکم وارحموا صغارکم، وصلوا أرحامکم، واحفظوا ألسنتکم، وغضّوا عمّا لا یحلّ النظر إلیه أبصارکم، وعمّا لا یحلّ الاستماع إلیه اسماعکم، وتحننوا على أیتام الناس یُتحنن على أیتامکم، وتوبوا إلى الله من ذنوبکم وارفعوا إلیه أیدیکم بالدعاء فی صلواتکم، فإنها أفضل الساعات ینظر الله عزّ وجلّ فیها بالرحمة إلى عباده یجیبهم إذا ناجوه، ویربیهم إذا نادوه، ویستجیب لهم إذا دعوه". إفتتحنا المقال بالآیة الکریمة والکلمات الدریّة المرویة عن الرسول الأعظم عن طریق العترة الطاهرة. وهذا الشهر شهر کریم، فإنّه شهر الله الذی أنزل فیه القرآن، فما أعظم مکانته حیث نزل فی النور المبین الذی أضاء العالم منذ نزوله إلى یومنا هذا. هذا وانّ الرسول یعرّف شهر رمضان بأفضل ما یمکن ویقول: إنّه شهر البرکة والرّحمة والمغفرة، وان أیامه ولیالیه أفضل الأیام واللیالی، ویبیّن وظیفة الصّائم الفردیّة والاجتماعیة، یفرض علیه السؤال عن ربه بنیّات صادقة وقلوب طاهرة، لیوفقه للصیام وتلاوة القرآن وأن یذکر بجوعه وعطشه جوع الآخرة وعطشها. هذا ما یتعلّق بوظیفته الفردیة، أما الوظیفة الاجتماعیة للفرد الصائم فهی القیام بالتصدق على فقراء الأُمّة ومساکینها أوّلاً، وتوقیر الکبار والترحّم على الصغار ثانیاً، وصلة الأرحام ثالثاً. وبما لهذا الشهر من العظمة عند الله تبارک وتعالى یلزم على الصائم المراقب لجوارحه أن یغض بصره عمّا لا یحل النظر إلیه، ویسد سمعه عما لا یحل الاستماع إلیه رابعاً.. إلى غیر ذلک من الوظائف التی جاءت فی الخطبة المبارکة. هذا ما ذکره الرسول فی خطبته، وفی الوحی الإلهی إیماء وتصریح للغایات التی فرضت لأجلها تلک الوظیفة. قال سبحانه: (یَا أَیُّهَا الَّذِینَ آمَنُوا کُتِبَ عَلَیْکُمُ الصِّیَامُ کَمَا کُتِبَ عَلَى الَّذِینَ مِنْ قَبْلِکُمْ لَعَلَّکُمْ تَتَّقُونَ* أَیَّامًا مَعْدُودَاتٍ) (البقرة/ 183-184). فهذه الآیات تعرب أوّلاً عن أن تلک الفریضة کانت فریضة إلهیة مفروضة على الأُمم کلها، فهی والصلاة فریضتان لم تخلُ شریعة منهما. وأنّ الغایة من فرضها على الناس هو التقوى والتخلی عن المعاصی والتحلّی بالفضائل. واما الصلة بین القیام بالصّیام والتخلّی عن الرّذائل واضحة ولا تحتاج إلى مزید بیان. فالإنسان الشبعان المتروی من الماء یکون أکثر استعداداً من الإنسان الجائع والعطشان، لاقتراف الذنوب وإرضاء الغرائز الجامحة. فهناک علاقة وثیقة بین الصیام وتجنب الذنوب، کما أن هناک رابطة واضحة بین إشباع الغرائز ورفض الحدود. ویوضّح قوله سبحانه فی الآیة الکریمة "أیاماً معدودات" أنّه لیس إلّا أیاماً قلائل یتقلص ظلالها بسرعة. ولکن الإنسان الواعی هو الذی یغتنم هذه الفرصة فیتلو فیه کتاب الله تبارک وتعالى ویتدبر آیاته، وقبل هذا وذاک یکسب رضوان الله تبارک وتعالى. وما اشبه هذا الشهر الفضیل بنهر عظیم یفیض بالخیر والعطاء والیمن والبرکة فی دنیا الصائمین، وعلیهم أن یغتسلوا فیه لیتخلّصوا من أدران الذنوب التی علقت بهم فی مسار الحیاة، حتى یکونوا طاهرین متطهرین. ولیس هناک اشقى ممّن حرُم المغفرة فی هذا الشهر المبارک ولم یغسل نفسه بماء الغفران الذی مُنح بلا مشقة.
الصیام وآثاره التربویة والاجتماعیة والصحیة: ولعل فیما ذکرناه کفایة لإیقاف القارئ على الآثار البنّاءة لهذه الفریضة الإلهیة. فهی من جانب تربّی النفس وتزکّیها من ادران المعصیة وشوائب العصیان لما بین الصیام وترک الشهوات من صلة وثیقة. وفی ظلّ هذا العامل یکون المجتمع فی أرقى درجة من التزکیة والتربیة فإذا کان الصیام جامحاً لشهوات الفرد فبالتالی هو کابح لشهوات المجتمع وتعدیاته. وفی ظلال هذه الأجواء تخف وطأة الجرائم بسهولة. ومن جانب آخر، إنّ الإنسان الشبعان لا یتحسس جوع الآخرین وفقرهم المدقع ولکنه إذا جاع سویعات فهو یلمس ألم الجوع والعطش من صمیم الذات فیقوم بخدمة الجائعین الذی یقتاتون الجوع والعطش طیلة عمرهم.. فأی عمل أفضل من هذا العمل الذی یدفع الأغنیاء والمتمکنین نحو التحنن للأیتام والمساکین ولأجل ذلک قال رسول الله (ص): "وتحننوا على أیتام الناس". ومن جانب ثالث إنّ هذا العمل یدفع الإنسان إلى أن یتأمل الیوم الرهیب الذی تشخص فیه الأبصار ولا ینفع فیه مال ولا بنون إلّا من أتى الله بقلب سلیم. فالإنسان الصائم یدفعه جوعه وعطشه إلى أن یتفکر بجوع یوم القیامة وعطشه.. جوعاً وعطشاً لا حدّ له ولا أحد. وأما الآثار الصحیة المترتبة على الصیام فحدّث عنها ولا حرج فإن جهاز الهضم لم یبرح یشتغل طیلة سنة وهو یحتاج إلى استراحة. والصیام محطة استراحة یذوب خلالها کلّ ما کان فیه من زوائد الطعام وفضوله. إنّ للصیام دوراً هاماً فی منح الصحة للمزاج وفی مجالات مختلفة یقف علیها من تطلع إلى ذلک فی الکتب الطبیة، غیر أنها تعبر عن الصیام بالامساک.. ومن هنا تأتی مقولة الرسول (ص): "صوموا تصحوا". إلى غیر ذلک من المنافع الصحیة کخفض الدم وتحدید السکر فی الدم.. وغیره.
من حوادث الشهر المبارک: وقد تضمن هذا الشهر حوادث عظیمة ورهیبة: 1- فهذا الشهر هو شهر الله الذی نزل فیه القرآن الکریم على قلب سید المرسلین. 2- وقد انتصر فیه المسلمون على المشرکین فی معرکة بدر الکبرى. وکان الوحی قد أخبر عنه قبل بضع سنین: (غُلِبَتِ الرُّومُ* فِی أَدْنَى الأرْضِ وَهُمْ مِنْ بَعْدِ غَلَبِهِمْ سَیَغْلِبُونَ* فِی بِضْعِ سِنِینَ لِلَّهِ الأمْرُ مِنْ قَبْلُ وَمِنْ بَعْدُ وَیَوْمَئِذٍ یَفْرَحُ الْمُؤْمِنُونَ* بِنَصْرِ اللَّهِ یَنْصُرُ مَنْ یَشَاءُ وَهُوَ الْعَزِیزُ الرَّحِیمُ) (الرّوم/ 1-5). فهذه الآیات آیات مکّیة أُخبر فیها النبی الأکرم (ص) فی العام السابع من بعثته أُخبر بأنّ الرّوم المغلوبین سینتصرون على عدوّهم فی بضع سنین. وأنّ هذا الانتصار یکون مقروناً بفرح المؤمنین ونصره سبحانه. وقد تحقّق الوعد فی العام الثانی من هجرته، حیث انتصر المسلمون والموحّدون على الوثنیین فی تلک الفترة، وفی الوقت نفسه انتصر الرّوم الإلهیّون على عدوّهم الوثنی فکان الانتصاران مقرونین بالفرح والسرور. 3- ولد الإمام السّبط الحسن بن علیّ المجتبى (ع) فی اللیلة الخامسة عشرة من هذا الشهر وبذلک تجسّد الکوثر الذی وعد الله به نبیّه وقال: (إِنَّا أَعْطَیْنَاکَ الْکَوْثَرَ)، وبه بدأت أوّل ثمار سلالة النبوة والامامة وزهق شناء شانئه، فصار النبی مظهراً للخیر العمیم اما عدوه فقد أصبح مقروناً بالعقم والبتر.
| ||
الإحصائيات مشاهدة: 1,667 |
||