لنستفد من الشهر الکریم فی التربیة والتقویم وإصلاح النفوس شهر رمضان أقبل.. والامّة الاسلامیة الیوم تواجه العدید من التحدیات والمشاکل والأزمات | ||
لنستفد من الشهر الکریم فی التربیة والتقویم وإصلاح النفوس شهر رمضان أقبل.. والامّة الاسلامیة الیوم تواجه العدید من التحدیات والمشاکل والأزمات
الهام هاشم
تواجه الامّة الاسلامیة الیوم تحدیات ومشاکل وأزمات مستفحلة ما یستلزم الإعداد والإستعداد، وإن هناک من المخاطر، فی الداخل والخارج، ما یجعل الحیاة الهادئة ترفاً غیرمبرّر. فالأعداء لا یشغلهم سوى التخطیط لإستمرار الهیمنة على هذه الأمة وترکیع دعاتها وإذلال قادتها، والکیان الصهیونی مستمر فی قمعة للمسلمین الفلسطینیین ومصمّم على تنفیذ مشاریعه التی تستهدف المسجد الاقصى ومحو معالم مدینة القدس المسلمة، والدول الکبرى تعمل علانیة وسرّاً لمواجهة ما تسمّیه ((التحدی الإسلامی))، وتبیح لنفسها فی هذا المجال إرتکاب ما تریده من جرائم ضد المسلمین، فالولایات المتحدة وربیبتها اسرائیل، هما اللتان تدعمان الحرکات التکفیریة والارهابیة فی السر، وتعلنان الحرب علیها فی العلن، وکذلک المسلمون فی عدد من الدول الغربیة یعانون من إضطهاد ومحاولات لقمع الهویة الإسلامیة وضرب حرمة الإسلام فی نفوس أبنائه، ولا ننسى العدوان السعودی الاثیم على الشعب الیمنی المسالم بالتواطىء مع الدول الغربیة والعربیة العمیلة. وهناک من المشاکل الإقتصادیة والإجتماعیة المرتبطة بهذه المخططات ما یتطلب الدراسة المستمرة والإهتمام الکبیر. ورغم ذلک فان القضایا الهامشیة بین الأنظمة السیاسیة الحاکمة کثیراً ما تمنع التوجه الشعبی والرسمی لوضع لبنات العمل المطلوب لمنع سقوط الأمة فی مخالب الأعداء. من هنا فالصوم عبادة متمیزة تتجسد فیها المعاناة المرتبطة بالجوع والشعور بالحرمان ومواجهة رغبات النفس، وهی بذلک منهج عمل تربوی یستهدف صنع الفرد المسؤول والمجتمع القادر على مواجهة حرکات التغریب والإفساد ومخططات الغزو الثقافی والنفسی. ولقد فشلت سیاسة التجویع التی إنتهجتها قریش فی عهد الإسلام الأول عندما حاصرت الرسول ومن معه فی شعب أبی طالب، وکذلک فإن سیاسات التهدید بالتجویع والمحاصرة الإقتصادیة حریة بالفشل لأن الإسلام إستطاع صنع الأمة القادرة على تحمّل المصاعب والأتعاب فی سبیل تحقیق الإستقلال والموقع الوسط بین الأمم. هذه المشاعر یجب أن تکون دافعاً للصائمین للتفکیر العمیق فی أوضاع الأمة والإستفادة من حالة الصوم ومکابدة الجوع لرفع المعنویات وتکریس حالة الإستقلال والتمیّز فی أوساط المسلمین. وفی هذه الأیام المبارکة لاتستطیع النفس المؤمنة إلا التحلیق فی عالم الملکوت، ولایملک الصائم إلا أن یبحث عن کل الطرق التی تربطه بخالقه، فهو یمتنع عن الأکل والشرب إمتثالا لأمر الله، وهو متوجه بقلبه وروحه إلى بارئ السماوات والأرضین، وهو فوق هذا وذاک یشعر بعلو شانه عند ربه، فلا ینحنی إلا له ولایمتثل إلا لأمره. فمن یستطیع فی هذا العالم أن یملی علیه أمره أو یضطره للخضوع؟ هو الله مالک السماوات والأرضین، وکل من سواه لیس إلا مخلوقاً ضعیفاً لا یملک لنفسه موتا ولاحیاة ولانشوراً! هذه المشاعر الرمضانیة هی سلوة المؤمن المبتلى. ونحن ـ المسلمین ـ الیوم نتعرض لإبتلاءات کبیرة یفشل فیها الکثیرون. ولعل الرحمة الإلهیة هی التی هیأت من هذا الدین مخرجاً من هذه الفتن، فجعلت شهر رمضان شهراً للإنابة والتوبة والعودة إلى الله لیرتفع بذلک شأن المؤمن ویستعلی على وساوس الشیطان وحبائله وأمانیه. فأمة تتعرض لما تتعرض إلیه أمة المسلمین الیوم من مشاکل وکوارث ومآس فی المال والوجود، أنىّ لها أن تتغلب على مواقع الضعف فیها وتدخل فی برنامج تربیة جماعی یؤهلها للتغلب على تلک المواقع ویرفعها إلى حالة الصمود والتحدی. فالمسلمون یستقبلون هذا الشهر ویستقبلون معه ذکریات کل منها تکفی لرفع الهمم وتوجیه الطاقات إلى المستقبل الأفضل . فمن تنزیل القرآن إلى غزوة بدر إلى فتح مکة، ألیس فی کل ذلک ما یکفی لرفع هامة المسلمین والإعتزاز بتأریخهم المجید فی ظل رسالة محمد بن عبدالله علیه أفضل الصلاة والسلام. لقد کتب الصیام على المؤمنین کما کتب على الذین من قبلهم لیکون فی ذلک مجال لإعادة النظر فی کل ما مر بالإنسان من قضایا ومشاکل وإخفاقات، لکی یستطیع الخروج من حالة الوهن والضعف إلى حالة القوة والإقدام. ومشاعر الصائم لایمکن أن تکون إلا بنّاءة متطلعة تتزود من القرآن مایشدّ عودها ویقوی وجودها. وتلذذه بالصوم والعبادة لایمکن إلا أن یغربل نفسه ویزیل عنها أدران الحیاة المعتادة. أوَ لیس هو جائعاً؟ وهل الجوع إلا مظهراً من مظاهر المعاناة فکیف یستطیع التغلب على الجوع والعوز فی مجتمعه، أوَ لیست هناک حاجة لبرنامج تربوی على مستوى الأمة لتکریس حالة التکافل والتضامن والصعود بالأمة إلى حالة العدالة والعیش السواسیة؟ ثم أن هذه الأمة المترامیة الأطراف والمتعددة الأجناس والمختلفة اللغات والمتباینة العادات، ما الذی یجمعها فی موقف واحد وحالة من السلوک؟ ما الذی یجعلها قادرة على تجاوز ما لدى فصائلها من تباین وإختلاف فی الطباع والعادات لیجعلها أمة تسیر فی حیاتها على نمط واحد. فلا تأکل إلا فی أوقات محددة ولاتشعر إلا بإسلوب واحد ولاتنظر إلى الحیاة إلا من منظار واحد؟ إنها فی هذا الشهر تتربى على نمط واحد متمیز أوضحه القرآن للناس فساروا على هدیه وجعلوا منه منهجاً لحیاتهم. إنهم یقرأوان القرآن أینما حلّوا فی شرق العالم أم غربه، ویتخلّقون بأخلاقه ویأتمرون بأوامره، ألیست هذه ثقافة أممیة تعجز عن محاکاتها أنظمة الآخرین فی هذا العالم؟ إنهم یعیشون حیاة متماثلة على صعید العبادة وعلى صعید العلاقات الإجتماعیة وعلى مستوى التکافل والعطاء والوصال والمساواة، فأی معتقد آخر یستطیع أن یجعل من أتباعه أمة متماثلة فی کل ما تعمل، متشابهة فی کل ما تتصرف به؟ لیس غریباً اذاً أن نستقبل شهر رمضان ونفوسنا تمتلئ بالغبطة لأن أحکام الصوم وشروطه کفیلة بتربیة الأمة بشکل تعجز کل أنظمة العالم عن القیام بمثله. وهنا یشعر العاملون للإسلام أن الله سبحانه وتعالى وهو یأمرهم بالدعوة إلى دینه قد جعل فی هذا الدین من وسائل الجذب والقدرة على التأثیر ما یسهّل مهمة الدعوة إلى إتباعه، فهو دین الفطرة وهو دین المنطق وهو دین القوانین الکونیة التی لیس فیها إلا الإنسجام الکامل. فالقانون الطبیعی ینسجم فی منطقة وهدفه مع قانون الصوم الذی یطلب من الإنسان الإمتناع عن الأکل والشرب والقول الفحش والسلوک المنحرف وینسجم مع قانون التکافل الإجتماعی الهادف لرفع الکابة والعوز عن المحتاجین. فلیهنأ المؤمنون بهذا الشهر الکریم ولیکن لهم محطة للتزود على المستویین، الفردی والجماعی، ولیؤمنوا بأن أداء عبادة الصوم على خیر وجوهها هو المدخل لأداء المهمات التبلیغیة والتغییریة الکبرى التی نذروا أنفسهم من أجلها. الصوم ممارسة واجبة على کل مکلف، تعلو فیها إنسانیة الإنسان على حاجاته المادیة، وینقاد خلالها جسده لروحه، وهو یتکرر کل عام شهراً لتعبید الإنسان لخالقه، ولمنع الطغیان والإنحراف الذی قد یطرأ على حیاة الإنسان. وکلمة الصوم کانت تستعمل عند العرب بمعنى الإمساک والإمتناع والکفّ عن فعل معین، کأن یکون الأکل والشرب أو الکلام أو المباشرة أو أی نشاط آخر، ولما جاء الإسلام إستخدم هذه الکلمة للتعبیر عن عبادة مخصوصة تستلزم الکف عن أمور معینة کالأکل والشرب من طلوع الفجر وحتى مغیب الشمس وفی شهر معین هو شهر رمضان المبارک. قال تعالى: ((شهر رمضان الذی أُنزل فیه القرآن هدى للناس وبینات من الهدى والفرقان، فمن شهد منکم الشهر فلیصمه، ومن کان مریضاً أو على سفر فعدة من أیام أخر، یرید بکم الیسر ولایرید بکم العسر ولتکملوا العدة ولتکبروا الله على ما هداکم ولعلکم تشکرون)) البقرة /185، ولم یقتصر الصیام على الإسلام فحسب، إنما کتبه الله سبحانه على الأمم الماضیة أیضاً، وکان عبادة فی أمم الأنبیاء کأمة موسى (علیه السلام) وأمة عیسى (علیه السلام)، ورغم عدم وجود ما یدل على وجوب الصوم فی التوارة والإنجیل الموجودین الیوم، إلا أن هذین الکتابین یمدحانه ویعظّمان أمره، وإلى الیوم فإن النصارى والیهود یصومون أیاماً معدودة فی السنة بأشکال مختلفة، کالإمتناع عن اللحم أو الإمتناع عن اللبن أو عن الأکل والشرب وفی القرآن ذکر صوم مریم وزکریا عن الکلام. قال تعالى: ((یا أیها الذین آمنوا کُتب علیکم الصیام کما کتب على الذین من قبلکم لعلکم تتقون)) البقرة/183. ((قال رب إجعل لی آیة، قال آیتک ألا تکلِّم الناس ثلاث لیال سویاً)) مریم/10، ((فکلی وإشربی وقرّی عیناً، فإما ترین من البشر أحداً فقولی إنی نذرت للرحمن صوماً فلن أُکلم الیوم إنسیاً)) مریم/26. وورد فی السیرة الشریفة ان شهر رمضان هو شهر الله، الذی دُعی فیه الناس لضیافة الحق تعالى، وأن کمال الصوم فی هذا الشهر المبارک لیس فی الإمتناع عن الأکل والشرب فحسب، إنما صوم جوارح الإنسان بما فیها لسانه وسمعه وبصره والورع عن محارم الله. فالصوم إختبار وإمتحان لمدى صدق العبد وعلاقته وإخلاصه لربه، فالصائم یعبّر عن إنتصار حب الله فی نفسه بالتعلق به، وترک متع الحیاة وشهوات الذات ولذائذها المختلفة. ویهدف الصوم إلى إصلاح النفس وتقویم السلوک وتربیة المشاعر لیبتعد الإنسان عن المعاصی والذنوب، ویدخل أبواب المغفرة والرحمة والقرب الإلهی والسعادة الروحیة، فهو تربیة لقوى النفس الخیرة على ترک الرذائل ومنعها من التجاوز إلى الإساءة والإنحراف. کما یربی الصوم فی الإنسان القدرة على تحمّل المصاعب والمشاق، ویعمل على تغییر سلوک الإنسان من سلوک ولید الرتابة والعادة إلى سلوک یقوم على التفکیر الواعی وإختیار لمواقفه والتعامل مع الأشیاء إرادیاً. من جهة أخرى، فإن الصوم یحافظ أیضاً على طاقات البدن من الإسراف وإعطاء الأجهزة الهضمیة التی تعمل بإستمرار طوال العام فترة من الإستراحة وإستعادة النشاط، إضافة إلى الفوائد الصحیة الکثیرة الأخرى التی أثبتتها الدراسات العلمیة الحدیثة. علاوة على أن الصوم عبادة جَماعیة یعیش فیها المسلمون وحدة المشاعر ووحدة الشعور بالمساواة حیث یستوى الغنی والفقیر، لأن الغنی کلما أراد شیئاً أمکنه الحصول علیه وهو لم یشعر فی حیاته بالجوع والعطش، فأراد المولى القدیر أن یذیق الغنی مسّ الجوع والألم حتى یرقّ على أخیه الضعیف، فیکون هذا الشعور سبباً فی تصحیح العلاقات الإجتماعیة وقاعدة من قواعد إقامة مجتمع التقوى والتأخی والتعاون.
| ||
الإحصائيات مشاهدة: 1,725 |
||