لقد کبر طفلای | ||
لقد کبر طفلای
رباب عصفور ودّعه أبوه بحرارة ثم قبلّته أمّه على خده. ف(سعید) اختصرالسنوات الثمانی عشرة من حیاتهما معاً بکلمة واحدة: "وداعاً". ثم استدار ومشى مسرعاً الى مبنى جامعی ناء. کان شاباً على عتبة البلوغ توّاقاً إلى تذوّق المغامرة. وعادت الام إلى البیت تبکی. ف(سعید) هو أصغر ولدیهما، ولم تکن هذه المرحلة الجدیدة من حیاتهما لتثیرها بمقدار ما کانت تثیره، وسبب ذلک أن الأمور ستتبدّل من الآن فصاعداً. أن أخاه الأکبر (مجید) یعود الیهم من الجامعة فی أیام کثیرة. کذلک سیعود (سعید) إلى البیت فی العطل والصیف. فهو إلى حدّ ما، لایزال معهم وسیبقى معهم دائماً، لکن غرفته خالیة والجامعة تشکّل مرحلة انعطاف حاسمة. وعاشاهی وزوجها السید (رحیمی) هذه المرحلة، بل نجحا فی اختبارها. فأنمیا علاقات جدیدة وباتا یفخران باستقلالیة ولدیهما. لکن کل أمر تبدّل کما توقّعت. فحتى لما عاد (مجید) الى البیت فی وقت لاحق، إثر حصوله على وظیفة فانه رجع إلیهم راشداً. والیوم لا تزال تشعر بغصّة کلما رأت أولاد جیرانی یغادرون الى الجامعة، لأنهما أسترجعا ذکرى فراق ابنها الاصغر اذ ولج ذلک الباب الکبیر. وأدرکت أن الدموع التی ذرفتها، کانت دموع نجاح لا دموع خیبة. فهم یُنشئا معتادین، الحزن الناتج من عدم تحقیق أحلامهما. لکنهما لم یدریا إطلاقاً أن بلوغ أهدافهما سیؤلم أیضاً. فکلا ولدیهما متزن ومعافی ولامع ویسهل علیه نیل الجوائز والشهادات ودخول الجامعات. لکنهما لم یکونا مهیأین لثمرة هذا النجاح، ألا وهی ألم الفراق. فعندما یقول الأهل لولدهما: " سوف تکبر فی یوم من الأیام" فانهم یعنون أنه سیکبر فی یوم من أیام السمتقبل البعید جداً ولا یعنون الیوم. والحقیقة الحلوة المرّة هی ان هذا الیوم یأتی أبکر ممّا یتوقّع الاهل. الأبوّة تقلب تسلسل المسؤولیات الأخرى. فیبدأ الوالدان بمسؤولیات ضخمة وبخبرة قلیلة أو معدومة، ویکتسبان خبرة کلّما کبر الطفل. ولکن سرعان ما تنتفی الحاجة إلیهما کمربیین عندما یجتمع لدیهما المقدار الکافی من الخبرة، إلى أن یأتی یوم تصبح کل خبرة الوالدین عدیمة الفائدة. الیوم حین ترى الأمهات فی المتاجر، یتصرفن وکان التبضّع مع أولادهن عمل رتیب سیستمر إلى الأبد، ترغب فی أن تبوح لهن بهذا السر. وذات یوم بُعیْد رحیل (سعید) شاهدت أمّه طفلین یتشاجران فی متجر ووالدتهما تصرخ فیهما : "کُفّا عن هذا الشجار". وکانت تدرک مدى سطحیة الشجار بین الأخوة، لکنها لو أندفعت إلى تلک المرأة الغریبة وقالت لها : "تمتعی بهذه المرحلة من حیاتک فهی لن تدوم" لاعتقدت أنها مجنونة. وأزداد شعورها بالوحشة لدى مرورها بالقرب من ملعب مدرسة فی أوائل الخریف. وزیّن لها خیالها ان ینفصل طفلاها عن الحشد ویندفعا نحو سیارتها هاتفین: "مرحباً یا أماه. ما رأیک فی تناول العصیرمعنا؟" أما المنزل فبدا مهجوراً بلا أولاد. فالالعاب مخبوءة فی القبو، وصُوَر التخرّج مصفوفة على المنضدة، والسکون یلف الغرف، حیث غابت الحیویة الصبیانیة التی ملأتها فی ما مضى. فی الأیام المفعمة بالحیاة کان المنزل یرجّع صدى خطوات الطفلین اللذین قلما کانا یسیران، بل کانا یرکضان او ینزلقان او یقفزان. وعندما کانت الاسرة تذهب فی رحلات حول العالم، کانا هما یعرضان علیهما العالم من خلال عیون الطفولة بعد ان ینهکهم التعب. فقد علم (مجید) أبویه الاّ یکرها النزهات المتکررة، فهی نزهات جمیلة. وبات مذاق الطعام أشهى بوجود طفلین یشارکانهما فیه. حتی المعکرونة أصبحت من الاطباق الشهیة. وأخذا ولدیهما فی رحلات قصیرة لا تحصى. ودوماً کانا هما المفسّریَن. وبعد رحیلهما حضرا حفلات کثیرة. لکنهما شعرا على الدوام کأنهما یزوران بلداً أجنبیاً من دون مرشد. کانت الامّ قد انتقلت إلى عالم الأمومة بعدما مارست مهنة الصحافة. وکانت تنوی العودة إلیها حالما تجد أحداً یشغل مکانها فی المنزل. لکنها اکتشفت أنه لیس فی امکان أحد أن یشغل مکانها فعلا. وسرعان ما أصبحت الکتابة الوحیدة التی یتیح لها وقتها، انجازها هی لائحة عجلى بالبقالة التی تحتاج الیها. والیوم ترى أن البقاء فی المنزل مع الأولاد أجزل مکافأة وإثارة للتحدی من أیّ عمل فی المکتب. فالوظیفة لیست سوى وظیفة، فی حین مرّت فترة کانت فیها وولدیها تعنی کل شیء لها. أتطلب الشهرة؟ کانت تشتهر بمجرد نجاحها فی تعلیمهما آیات القرآن الکریم. أتطلب الثروة؟ کانت تشعر بالثراء کلما اصطحبت ولدیها إلى المکتبة لشراء القصص والحکایات لهما. أتود التقدیر؟ لقد مرّت فترة منحتها فیها عبارة "تقول أمی" السلطة فی جمیع المیادین. الآن فقط أدرکت أهمیة تلک المهمة. فما فعلته أو لم تفعله، سیؤثّر فیهما طوال حیاتهما. ولیس فی طاقتها أن ترجع إلى الوراء وتؤدی أی عمل من جدید. کل ما یمکنها أن ترجوه هو أن تعادل الأخطاء التی ارتکبتها حین کانت منشغلة أو سریعة الغضب، الأوقات التی طرحت فیها کل شیء جانباً لتمنحهما العنایة التی احتاجا إلیها. نادراً ما تبدی هی ووالدهما الیوم نصیحة غیر ملموسة. فهما یعلمان أنه یتعین على کل جیل أن یرتکب أخطاءه، ویحاولان ألا ینتقدا ولدیهما، لأنهما یدرکان أن العالم سیکون أنتقادیاً بما فیه الکفایة. فلا خیار لهما إلا أن یؤدیا الدور الاخیر للأبوّة الصالحة، ألا وهو أن یترکاهما یرحلان. لکن هذین الشابین المهذبین لیسا هما اللذین تفتقدهما، بل أنها تفتقد الصبیین الصغیرین العزیزین المقیمین فقط فی ألبوم الصور وفی الذاکرة. الآن اتّسع وقتها لمهنتها من جدید. لکن ما یعکر هذه الحرّیة هو الشعور بأنهماا خسرا أفضل أدوار حیاتهما. فالابوة رفقة یصحبها توافق فرید بین الامتیاز والمسؤولیة. وهی تمنح المرء وضعاً یسمو فوق المرکز الاجتماعی والسلطة والثراء. وتزداد الابوّة رهبة إذ ندرک – تقول الام - استحالة الرجوع عنها. فالأولاد لا یحملون مقوماتنا الوراثیة فحسب، بل مثٌلنا أیضاً. فلا یسعنا أبداً الرجوع إلى البدایة. فی قلبیهما وفی بیتهما الیوم غرف خالیة. لکن فلذتیهما یحملان أثراً لا یُمحى عن حیاتهما البیتیة المشترکة. وهذا الاثر ثابت الى حد أن جانباً منه سینتقل إلى أولادهما وإلى أولاد أولادهما. | ||
الإحصائيات مشاهدة: 2,325 |
||