عرفة.. ضیافة الله | ||||
PDF (1440 K) | ||||
محمد طاهر الصفار “وَأَذِّن فِی النَّاسِ بِالْحَجِّ یَأْتُوکَ رِجَالاً وَعَلَى کُلِّ ضَامِرٍ یَأْتِینَ مِن کُلِّ فَجٍّ عَمِیقٍ* لِیَشْهَدُوا مَنَافِعَ لَهُمْ وَیَذْکُرُوا اسْمَ اللَّهِ فِی أَیَّامٍ مَّعْلُومَاتٍ عَلَى مَا رَزَقَهُم مِّن بَهِیمَةِ الْأَنْعَامِ فَکُلُوا مِنْهَا وَأَطْعِمُوا الْبَائِسَ الْفَقِیرَ* ثُمَّ لْیَقْضُوا تَفَثَهُمْ وَلْیُوفُوا نُذُورَهُمْ وَلْیَطَّوَّفُوا بِالْبَیْتِ الْعَتِیقِ*» (الحج ٢٧/٢٨). أیّة دعوة أشرف من هذه الدعوة ؟ وأیّ نداء أقدس من هذا النداء ؟ وأیّة نعمة أوفر من هذه النعمة، أجل لا شیء أسبغ من هذه الرحمة الإلهیة على العبد حینما یدعوه سبحانه وتعالى إلى ضیافته فیغمره بفضله ویأمنه فی بیته، وطوبى للعبد وهو ینعم بهذه الآلاء عندما یجیب هذه الدعوة فی قدومه من فج عمیق ملبیاً نداء الحق تعالى ومستجیباً لأمره یبتغی بذلک القربة إلیه والمنزلة لدیه والمغفرة منه فی البیت الحرام الذی جعله الله مثابة للناس وأمناً مبارکة وهدى للعالمین. السمو فی طاعة الله الحج یمثل أعلى مراحل التوحید ونفی الشرک، وفضلاً عن الإخلاص فی العبودیة لله تعالى فهو ملیء بالدروس والعبر التی یستلهمها المسلم لبناء الجانب المعنوی فی حیاته، والمتأمّل فی هذه الدروس یجد فیها المعنى السامی والهدف الرفیع الذی من أجله فرض الله تعالى على المسلم هذه الفریضة الشریفة. ونجد فی خطبة أمیر المؤمنین (علیه السلام) ما یوضح هذه الدروس التی تغذّی المسلم تغذیة روحیة عندما یقول: (وفرض علیکم حج بیته الحرام الذی جعله قبلة للأنام، یردونه ورود الانعام ویألهون إلیه ولهَ الحمام، جعله سبحانه علامة لتواضعکم لعظمته، وإذعانکم لعزته، وأختار من خلقه سماعاً أجابوا إلیه دعوته وصدقوا کلمته، ووقفوا مواقف أنبیائه، وتشبهوا بملائکته المطوّفین بعرشه، یحرزون الأرباح فی متجر عبادته ویتبادرون عند موعد مغفرته، جعله سبحانه وتعالى للإسلام علما وللعائذین حرماً، فرض حجه، وأوجب حقه، وکتب علیکم وفادته فقال سبحانه، ولله على الناس حج البیت من استطاع إلیه سبیلاً). ویتضح من خلال هذه الکلمات معنىً سامیاً فی الحج وهو أن الله سبحانه وتعالى یرید للمسلم أن یرتقی فی تواضعه لعظمة الله ویسمو فی إذعانه لعزة الله فهو عندما یقف فی ذلک الموقف فأنه یتشبه بالأنبیاء والملائکة فلا یفکر فی تجارة سوى عبادة الله ومغفرته ورضوانه فهو فی حرم الله وأمنه. وهناک معنى آخر من معانی فرض الحج تطرق إلیه أمیر المؤمنین (علیه السلام) فی بعض کلماته حینما قال: (فرض الله الإیمان تطهیراً من الشرک والصلاة تنزیهاً عن الکبر والزکاة تسبباً للرزق والصیام ابتلاء لإخلاص الخلق والحج تقویة للدین). ولا یخفى هنا المعنى العظیم للحج حیث أن قوة المسلمین والدین تکون فی توحّدهم وتکاتفهم وهذا ما یعطیهم الهیبة فی نفوس أعدائهم وهو ما یتحقق فی الحج فضلاً عن ما یتحقق من خلال اجتماعاتهم من التآلف ونبذ الفرقة والعمل على جمع الصفوف. وهذا المعنى تطرَّقت إلیه السیدة فاطمة الزهراء (علیها السلام) فی خطبتها عندما قالت: وفرض علیکم الحج (تشییداً للدین)، ونجد هذا المعنى یتجسد فی قول الإمام الصادق (علیه السلام) أیضاً فی قوله: (لا یزال الدین قائماً ما قامت الکعبة). وقد أکدت الأحادیث الشریفة للنبی الأکرم (صلى الله علیه وآله) والأئمة الطاهرین (علیهم السلام) على أهمیة الحج کونه یمثل إحدى دعائم الإسلام الخمس وهی الصلاة، والزکاة، والصوم، والحج والولایة لأهل البیت کما فی قول الإمام الباقر (علیه السلام): (فترک الحج عند الاستطاعة نظیر ترک الصلاة أو الزکاة أو الصوم). الآثار المترتبة على ترک الحج وقد حرصت الآیة الکریمة على منزلة هذه الفریضة عند الله وبیّنت ما یؤول إلیه مصیر من ترکها بقوله تعالى: (ولله على الناس حج البیت من استطاع إلیه سبیلاً ومن کفر فإن الله غنی عن العالمین). وفی الکافی سأل علی بن جعفر أخاه الإمام الکاظم (علیه السلام) عن قوله تعالى: (ومن کفر) قال، قلت: ومَن لم یحج منّا فقد کفر ؟ قال (علیه السلام): (لا، ولکن من قال لیس هذا فقد کفر)، وهناک الکثیر من هذه الاحادیث یجدها القارئ فی المصادر المعتبرة تدلنا على مدى تأکید النبی (صلى الله علیه وآله) والأئمة المعصومین (صلوات الله علیهم) فی فضل هذه الفریضة، کما یجد القارئ الکثیر من الأحادیث فی فضل الحاج وثوابه منها ما روی عن الصادق (علیه السلام): (ودّ مَن فی القبور لو أن له حجة واحدة بالدنیا وما فیها). کما وردت الکثیر من الأحادیث فی الآثار والفوائد الدنیویة والأخرویة للحج منها قول الرسول الأکرم (صلى الله علیه وآله) فی خطبة یوم الغدیر: (معاشر الناس حجّوا البیت، فما ورده أهل بیت إلا استغنوا، ولا تخلفوا عنه إلا افتقروا)، وعن أمیر المؤمنین (علیه السلام): (وحجّ البیت واعتماره فأنهما ینفیان الفقر ویرخصان الذنب)، والرخص یعنی الغسل. وعن الإمام الصادق (علیه السلام): (الحج والعمرة سوقان من أسواق الآخرة، اللازم لهما فی ضمان الله إن أبقاه أداه إلى عیاله، وإن أماته أدخله الجنة)، وعن الإمام الرضا (علیه السلام): (ما یقف أحد على تلک الجبال بر أو فاجر ألا استجاب الله له، فأما البر فیستجاب له فی آخرته ودنیاه، وأما الفاجر فیستجاب له فی دنیاه). کما توجد روایات کثیرة على لسان المعصومین علیهم السلام فی الآثار المترتبة على ترک الحج وما یؤدی ذلک من عواقب وخیمة، فعن الصادق (علیه السلام) أنه قال: (من مات ولم یحج حجة الإسلام ولم یمنعه من ذلک حاجة تجحف به أو مرض لا یطیق فیه الحج أو سلطان یمنعه، فلیمت یهودیاً أو نصرانیاً). فالحج من أهم العبادات التی یتقرب بها الإنسان إلى خالقه ویصل إلى ساحة قدسه، والسفر إلى الحج هو السفر إلى الله تعالى للوقوف بین یدی عظمته والدخول فی ضیافته فی بیته الذی جعله باباً لرحمته، فمن دخله کان من الآمنین، وقد ورد عن النبی الأکرم (صلى الله علیه وآله): (الحجاج والعمار وفد الله یعطیهم ما سألوا ویستجیب دعاءهم ویخلف نفقاتهم). وعن أمیر المؤمنین (علیه السلام): (الحاج والمعتمر وفد الله وحق على الله تعالى أن یکرم وفده ویحبوه بالمغفرة) وعنه (علیه السلام) أیضاً: (أن رسول الله (ص) لمّا حجّ حجّة الوداع وقف بعرفة وأقبل على الناس فقال: (مرحباً بوفد الله ــ ثلاث مرات ــ الذین إن سألوا أعطوا، وتخلف نفقاتهم، ویجعل الله لهم فی الآخرة بکل درهم الفاً من الحسنات). وتعلّمنا أحادیث الأئمة المعصومین (علیهم السلام) آداب الحج وشروطه ومن هذه الشروط الإخلاص فی الحج فقد ورد فی ثواب الأعمال عن هارون بن خارجة عن الإمام الصادق (علیه السلام) أنه قال: (الحج حجّان حج لله وحج للناس فمَن حجّ لله کان ثوابه على الله الخیر، ومن حجّ للناس کان ثوابه على الناس یوم القیامة). وفی نفس المصدر عنه (علیه السلام) أیضاً أنه قال: (من حجّ یرید الله عز وجل لا یرید به ریاء ولا سمعة غفر الله له البتة)، کما تدلنا أحادیثهم (علیهم السلام) ووصایاهم على ما یجب أن یکون علیه الحجاج من کمال شروط الحج، وأن یأخذوا بالوظائف القلبیة التی تشترط بالحاج، ومنها شرط الولایة. ففی الکافی عن الإمام الصادق (علیه السلام) أنه نظر إلى الناس یطوفون حول الکعبة فقال: هکذا کانوا یطوفون فی الجاهلیة إنما أُمِروا أن یطوّفوا بها، ثم ینفروا إلینا فیُعلمونا ولایتهم ومودتهم ویعرضوا علینا نصرتهم، ثم قرأ الآیة: «فاجعل أفئدة من الناس تهوی إلیهم”.وروى الصدوق فی علل الشرائع عن أبی حمزة الثمالی قال: دخلت على أبی جعفر (علیه السلام) وهو جالس على الباب الذی یلی المسجد الحرام وهو ینظر إلى الناس یطوفون فقال: یا أبا حمزة بما أُمروا هؤلاء ؟ قلت: لا أعلم، فرد علیه وقال: إنّما أُمروا ان یطوّفوا بهذه الأحجار فیعلمونا ولایتهم. الإمام الحسین (علیه السلام) ویوم عرفة مع ما مرّ من جملة الأحادیث والروایات المؤکدة على أهمیة الحج کفریضة عبادیة وسبیل إلى الله سبحانه وتعالى، ومناسبة لتهذیب النفس وتکامل الشخصیة الإیمانیة، فإننا أمام درس عملی فی عروج النفس والتقاء المعارف والقیم والمفاهیم التی جاء بها الإسلام فی دعاء یُقرأ فی یوم عرفة وفی الساعات التی یقف فیها الحجیج على جبل عرفة، منذ ارتفاع الشمس فی التاسع من ذی الحجة، لکنه لیس کأی دعاء، لأنه صدر من شخصیة تمثل إشعاعاً من النبوة والرسالة السمحاء، إنه الإمام الحسین سید الشهداء (علیه السلام). فقد نقل المحدث الشیخ عباس القمّی (طاب ثراه) فی مفاتیحه، عن الکفعمی فی (البلد الأمین) ما صورته: روى بشر وبشیر ابنا غالب الأسدی، قالا: کنّا مع الحسین بن علی (علیهما السلام) یوم عرفة فخرج من فسطاطه خاشعاً، فجعل یمشی هوناً هونا، حتى وقف هو وجماعة من أهل بیته وولده فی مسیرة الجبل مستقبل البیت الحرام ثم رفع یدیه تلقاء وجهه کاستعظام المسکین، ثم قال: (الحمد لله الذی لیس لقضائه دافع ولا لعطائه مانع ولا کصنعه صنع صانع وهو الجواد الواسع....) الى آخر الدعاء المعروف، الذی یحمل کل معانی الخضوع والخشوع الى الله والشکر والحمد له تعالى على نعمائه وآلائه.وعندما یحرص المؤمنون کل عام على تجشم عناء السفر من کل حدبٍ وصوب نحو مرقد سید الشهداء (علیه السلام) فی مدینة کربلاء المقدسة لتکرار تلک الکلمات المضیئة والسامیة، فی ظهیرة یوم عرفة، إنما یسعون لبلوغ المرتبة السامیة التی قصدها الإمام الحسین فی دعائه العظیم، ولذا نجد التأکید والحثّ فی روایات المعصومین فی فضل الحضور عند مرقد سید الشهداء (علیه السلام) فی هذا الیوم لینال الزائر فضیلة وثواب وقوف الحاج على جبل عرفة. وإذا ألقینا نظرة على التأکیدات المرویة عن الأئمة الأطهار (علیهم السلام) على إحیاء لیلة ویوم عرفة عند مرقد الإمام سید الشهداء، سنعرف أن تضییع فرصة قراءة دعاء الإمام والإتیان ببقیة الأعمال المندوبة یُعد خسارة کبیرة لا تعوّض إلا إذا کان عناک عذر شرعی یمنع من ذلک أو یکتب الله تعالى لنا عمراً إلى السنة القادمة. | ||||
الإحصائيات مشاهدة: 407 تنزیل PDF: 176 |
||||