الحـــــج... مصدر القیم الإنسانیة ورمز الوحدة الکبرى | ||
الحج واجب محتم وفریضة مقدسة. یقول الله تعالى فی کتابه الکریم: " ولله على الناس حج البیت من استطاع إلیه سبیلاً. ومن کفر فإن الله غنی عن العالمین" [آل عمران 97] " " وأذن فی الناس بالحج یأتوک رجالاً وعلى کل ضامر یأتین من کل فج عمیق لیشهدوا منافع لهم ویذکروا اسم الله فی أیام معلومات على ما رزقهم من بهیمة الأنعام". [الحج 27 ، 28] ویقول الرسول الأعظم محمد (ص): " بنی الإسلام على خمس : شهادة أن لا إله إلا الله ، وأن محمداً رسول الله ، وإقام الصلاة ، وإیتاء الزکاة ، وحج البیت، وصوم رمضان" (رواه البخاری ومسلم) ویروی البخاری فی صحیحه أنه قال: "سُئل رسول الله (ص) : أی الأعمال أفضل؟ فقال : إیمانٌ بالله ،قیل ثم ماذا؟ قال: الجهاد فی سبیل الله، قیل ثم ماذا؟ قال: حج مبرور" . ویروى عنه أیضاً أن رسول الله (ص) قال: " العمرة إلى العمرة کفارة لما بینهما ، والحج المبرور لیس له جزاء إلا الجنة". عزیزی القارئ: إن الحج فریضة مقدسة من فرائض الإسلام الحنیف، وقاعدة مهمة من قواعده العظیمة ، ودعامة کبرى من دعائمه المعروفة، فقد أثبتت هذه الآیات والأحادیث وغیرها کثیر أنه أمر لازم، وفرض مطلوب فی العمر مرة، عند توافر شروطه المعینة وقیوده المبینة، وأن فی تأدیته والقیام به من الأجر والثواب والخیر والبرکات الشیء الکثیر، والکثیر جداً ، وأن المسلم المستطیع ینبغی له أن یکثر منه کلما سنحت له الظروف، وأنه یفید الإنسان المسلم فی هذه الحیاة وتلک الحیاة ، ویجمع له من القیم والفضائل والأخلاق والآداب والمثل العلیا والخصال الحمیدة ما یسمو به ویرتفع عن مستوى الإنسان العادی ، بما یفیضه علیه من التوجیه السدید ، والتربیة الإسلامیة ، والتهذیب الدینی الرفیع. وفی هذه العجالة أرید أن أتکلم على شیء من حکم الحج وأسراره وما ینطوی علیه من الرموز والإشارات والتعلیمات إلى بعض القیم الإنسانیة والأخلاق الفاضلة والمثل العلیا التی یجب على الحجاج أن یفهموها ویستفیدون منها ویسیروا على ضوئها فی حیاتهم، على نور العلم وضوء الشریعة وشعاع الإسلام الحنیف.
المساواة والعدالة الاجتماعیة: إن الشعوب الإسلامیة تتوق إلى تحقیق معنى المساواة ، وتنادی الفینة تلو الفینة وتطالب بتعمیم العدالة الاجتماعیة بین مختلف الطبقات من أبنائها. وإن فی تعالیم دینهم ـ التی من بینها: أحکام الحج، وما یشتمل علیه هذا المؤتمر من أعمال ـ ما یرشد إلى المساواة الحقیقیة وما یرمز إلى تحقیق هذا المبدأ النبیل ، والوصول إلى هذا الغرض الشریف "المساواة بمعناها الکامل الصحیح" .. وإن من یتأمل فی أحوال الحجیج عندما یقومون بتأدیة مناسک حجهم یتبین بوضوح وجلاء مظاهر المساواة على أکمل وجه. فهؤلاء یطوفون بالبیت الکریم، وأولئک یسعون بین الصفا والمروة ، والجمیع یقفون بجبل عرفات وفی أی موضع من المشاعر والمعالم الإسلامیة. هناک یقومون بتلک الأعمال زرافات زرافات.. یرتدون زیاً موحداً، ویقومون بتلک الأعمال بصورة واحدة فلا فرق بین أمیر ومأمور ولا رئیس ومرؤوس، ولا فرق بین غنی وفقیر، وجلیل وحقیر، ولا بین عالم وجاهل، ولا کبیر ولا صغیر.. فتتوارى هناک مظاهر التفرقة ، ویفقد بین الناس میزان الفوارق بین الطبقات. التضحیة والفداء: وفی موسم الحج إرشادات قیمة ، وتوجیهات حکیمة إلى مبدأ کریم من المبادئ الإسلامیة.. مبدأ التضحیة والفداء، وبذل النفس والنفیس وکل ما یملک المسلم من إمکانیات وطاقات مادیة ومعنویة فی سبیل الله وسبیل ما یؤمن به من عقائد ومبادئ. وما رمی الحجار المعروف بمنى فی أیام التشریق إلا إشارات ورموز تلمح إلى تلک القصة العجیبة الخالدة ـ قصة التضحیة والفداء ـ بأعز ما یملک الإنسان فی هذه الحیاة.. قصة سیدنا إسماعیل الذبیح مع أبیه سیدنا إبراهیم الخلیل. على جمیعهم أفضل الصلاة وأزکى التسلیم.. هذه القصة التی أخبر بها القرآن وبقیت تتلى على مر الأزمان ، لتلقن أبناء الأمة الإسلامیة وتوحی إلیهم فی کل عصر وفی کل مصر، أن سیادة الدنیا وسعادة الآخرة یتطلبان رضا المولى تبارک وتعالى، وامتثال أوامره، واجتناب نواهیه، ومن بین ذلک أن یکون المسلم مستعداً لبذل ما یطلب منه من نفس وولد ومال وحال ومقال، وأن یعتنق مبدأ التضحیة والفداء ، والبذل والعطاء، کمبدأ وعقیدة یؤمن بهما کجزء من دینه وإسلامه حتى یحقق بذلک رضا ربه وضمیره وإسلامه، ولو أدى ذلک إلى رفع المهج والأرواح قرباناً وثمناً لذلک. مع عصر الإسلام الأول: وفی موسم الحج والقیام بأعماله یعیش المؤمن الکامل ، المؤمن الذی یفکر ویتأمل ویتعمق فی معانی تلک المشاعر والمناسک.. یعیش بقلبه وضمیره مع الإسلام فی أول نشأته، ویرجع بنفسه إلى تلک المواقف الخالدة التی کان یقفها الرسول الأعظم وأصحابه الکرام من حوله ، یقومون بأعباء هذا الدین ، وینشرون تعالیم الدعوة إلى الله وسط ذلک الجو القاتم الذی یملؤه التعصب والعناد، والمکر والخداع، والظلم والأنانیة ، والجاهلیة المطبقة، والظلام الحالک الذی یخیم على تلک البلاد، ویعم ما فیها ومن فیها.. یعیش الحاج لحظات مع الرسول وصحبه وهم یتحملون فی سبیل هذا الدین وهذه الدعوة المبارکة ألواناً من الأذى والمتاعب والمصاعب تنوء بها الجبال.. یعیش الحاج وهو یؤدی تلک المناسک، ویتشرف بزیارة تلک الآثار الکریمة.. یعیش مع آیات القرآن تترا حیناً بعد حین، ورسول الوحی جبریل (علیه الصلاة والسلام) یروح ویغدو بها على الرسول الأعظم (ص) على حسب ما تقتضیه الظروف والأحوال ، یبشر وینذر ، ویبنی القواعد، ویؤسس الدعائم ، ویخطط للحیاة الجدیدة ـ حیاة الإیمان بالله وبشرائع الله فی الأرض وأحکامه بین عباده ـ یعیش مع الأستاذ الأول للبشریة جمعاء ، وهو یبین ویوضح ویؤدب ویوجه ویشعر الناس بواجباتهم نحو ربهم، ونحو أنفسهم ، ونحو الآخرین .. کل هذه المعانی یلاحظها الحاج المؤمن العارف المتنور ، ویستحضرها نصب عینیه وهو یتمشى وسط تلک الأماکن الطیبة، ویتجول بین جنباتها المقدسة، تملأ نفسه روح الغبطة والسرور حیث قدر له أن یتشرف بزیارة هذه البقاع الطاهرة.. مولد الرسول الأعظم، ومنشأه الأول، ومنزل الوحی الإلهی، ومنبع الدعوة الإسلامیة الخالدة، وحرم الله المقدس وبیته الکریم. عظمة الأمة الإسلامیة: فی مؤتمر الحج هذا یتجلى واضحاً الشعور بعظمة الأمة الإسلامیة والإحساس بما یجب أن تکون علیه من مکانة لائقة بها فی عالم الیوم. وبذلک یمکن لأبنائها أن یتدارکوا ما فاتهم، وأن یتلافوا النقص الذی لحق بهم، وأن یزیلوا من طریقهم کل العقبات وأن یذللوا کل الصعوبات التی سببت لهم التخلف عن مواصلة رکب الحضارة السائد الصاعد، وأن یبحثوا عن تلک الجوانب عندما یرجعون إلى بلدانهم مزودین بألوان من العلاج الناجع النافع. الوحدة الکبرى: إن الشعوب الإسلامیة ترنو للوحدة الکبرى لأنها جزء من عقیدتها، ولذلک تنادی بها وتحاول أن تسعى لتحقیقها کلما سنحت لها الفرصة وواتتها الظروف. ترید أن تکون أمة واحدة کجسم واحد یحس بعضه بآلام بعض، ویتداعى له بالسهر والحمى، کما یقول الحدیث الشریف فی الأخوة الإسلامیة الصحیحة.. وفی مؤتمر الحج العام ما یرشد أبناء الأمة الإسلامیة إلى تحقیق تلک الوحدة المنشودة، والتی یجب أن تتم بینهم.. تلک الوحدة السلیمة التی یجب أن تبنى على أساس من الدین والعقیدة، وعلى أساس من الإخلاص والصراحة، وعلى أساس من الصداقة والمحبة، وعلى أساس من العمل الموحد والنوایا الطیبة والآراء الصائبة الحکیمة. انظر معی ـ قارئی الکریم ـ على مظاهر هذه الوحدة حیث تبدو واضحة جلیة فی موسم الحج وأعماله ومناسکه المقدسة . فهؤلاء قوم من العرب ، وأولئک جماعة من الأعاجم ، وهذا أبیض اللون ، وهذا أصفر ، وهذا أسود ، وهذا یتکلم لغة تخالفها ، وهذا من آسیا ، وهذا من أفریقیا، وآخر من أوروبا أو أمریکا أو غیرها من مختلف القارات والجهات ، ولکنهم فی الحقیقة جماعة واحدة یکونون وحدة متماسکة لا تنفصم جمعت بینهم تعالیم الحج التی هی من تعالیم الإسلام الحنیف.. دین التوحید الخالص، والکلمة الجامعة.. التی هی عنوان الإسلام وعلامة المسلمین "لا إله إلا الله محمد رسول الله" . وها هم جمیعاً یطوفون حول بیت واحد ، ویسعون سعیاً واحداً ویلهجون بعبارة واحدة : ـ لبیک اللهم لبیک ، لبیک لا شریک لک لبیک، ویقفون على جبل واحد.. وهکذا تجد مظاهر الوحدة الإسلامیة الکبرى فی کل مجال من مجالات الحج، وفی کل عمل من أعماله ومنسک من مناسکه المطهرة وشعائره المقدسة مما یشعر المسلمین بتذکر تلک الرابطة القویة.. والأواصر الأصیلة التی جمعت بینهم، ووحدت صفوفهم، وجعلت منهم أمة لا تفصل بینهم تلک الفوارق المصطنعة من تباعد البلدان واختلاف الأجناس والألوان واللغات ، واللسان.. تلک الرابطة التی صیرتهم یجعلون دائماً نصب أعینهم قول الله تبارک وتعالى فی کتابه الکریم: " إن هذه أمتکم أمة واحدة وأنا ربکم فاعبدون" [الأنبیاء ، 92] .. جعلتهم یتذکرون دائماً تلک الوشائج الکبرى التی تربطهم برباط العقیدة والإیمان، وتخلق منهم وحدة لا تنفصم ولا تتأثر بمؤثرات التاریخ وتحول الظروف وتغیر الأحوال، لأن عقیدتهم.. هی .. هی، لا تبدیل فیها ولا تغییر، هی بعنوانها الخالد الباقی الدائم المستمر : لا إله إلا الله محمد رسول الله .. هذا الرباط العام الذی یوصی بوحدة القلوب والضمائر والعقیدة والأعمال، والآلام والآمال، والأهداف والوسائل بین سائر أبناء الأمة الإسلامیة مهما کانوا ومهما کانت ظروفهم وأحوالهم. وبعد، فهذه ـ عزیزی القارئ ـ هی الخطوط العریضة ، کما یقولون ، للمعانی الإسلامیة السامیة، والقیم الإنسانیة النبیلة ، والمثل الأخلاقیة الفاضلة، والمبادئ الدینیة ، والقواعد الأساسیة التی یشیر إلیها موسم الحج، ویرشد إلیها مؤتمره الإسلامی الکبیر ـ الذی أمر المسلمون بإقامته کل سنة ـ والذی یجب أن یستفیدوا منه هذه المعانی وغیرها، حتى یکون مؤتمراً ناجحاً ومفیداً ومؤدیاً لنتائجه المرجوة منه والمترتبة علیه فی نظر الإسلام. وأحب أن أسوق إلیک ـ عزیزی القارئ ـ فی ختام الحدیث فی هذا الموضوع ، معنى ما قاله أحد کتاب الغرب ، ینصح به أبناء أمته ویوجههم إلى الطرق التی تضمن لهم الوصول ـ ومن أقرب السبل ـ إلى تحقیق أهدافهم ، وبلوغ أمنیتهم من القضاء على الشرق الإسلامی الذی کان ولا یزال شغلهم الشاغل، والذی یصوبون نحوه جمیع سهامهم فی کل وقت وحین، فقد کتب یقول ما معناه: أن الغرب یرید أن یقضی على الإسلام فی الشرق ، وهذه رغبة حاول تحقیقها مرات ومرات بالحروب الصلیبیة وما بعدها ، ولکنه لا یستطیع ذلک، کما ینصح هذا الکاتب : ولا یمکن أن یحقق هذا الغرض إلا اذا قضى على أمور ثلاثة ذات أهمیة خاصة، واعتبارات کبرى فی بقاء الإسلام واستمراره فی الشرق مصوناً ومحفوظاً لا تهزه العواصف، ولا تنال منه التیارات الجارفة التی تحیط به من قریب أو من بعید .. هذه الأمور الثلاثة: أولها الخلافة الإسلامیة ، وجمع الأمة على رجل واحد یجمع شملهم ، ویوحد سیاستهم ، ویلم شعثهم ، قال: وقد نجح الغرب فی هذا الأمر . فقد قضى على هذا العنصر الفعال ، وحقق ذلک بالعمل على إماتة هذه الفکرة والإجهاز علیها بأیدی أبنائها منذ سقوط خلافة بنی عثمان ، وأصبح العالم الإسلامی ممزقاً ومفرقاً ومنقسماً على نفسه. أما الأمر الثانی ، وهو على غایة من الأهمیة ، فهو الکتاب المقدس والقرآن الکریم ، فلا یمکن القضاء على الإسلام ، وإماتة الروح الإیمانیة من أبناء الشرق ما دام هذا الکتاب موجوداً یتلى بین الناس ویعمل به ولو فی بعض الشؤون. فعلى الغربیین أن یعملوا بکل وسیلة على القضاء على هذا الکتاب إن أرادوا النجاح التام فی هذه المهمة. وأما الأمر الثالث ، وهو الذی یعنینا فی هذا الموضوع بالذات ، فهو موسم الحج ومؤتمره الإسلامی الکبیر، الذی یجتمع فیه عدد وافر من أبناء الأمة الإسلامیة فی کل سنة، ویأتون إلیه من جمیع أنحاء المعمورة، فیتعارفون فیما بینهم، ویتدارسون شؤونهم، ویبحثون أمورهم من جمیع نواحیها، وهذا فی رأیه من أکبر العوامل أثراً على بقاء الإسلام واستمراره ووقوفه فی وجه الاستشراق الغربی وأعماله وآماله. فعلى الغربیین أن یسعوا جهدهم ـ کما یقول هذا الکاتب للحیلولة دون إقامة هذا المؤتمر الخطیر ، أو على الأقل یعملون على التقلیل من أهمیته فی نظر المسلمین إن أرادوا النجاح فی هذه المهمة ، وهی إماتة الروح الإسلامیة فی شعوب الإسلام وأمم الشرق.. هذه ـ عزیزی القارئ ـ هی نصیحة هذا الکاتب الغربی یوجهها لأبناء جنسه، ولا شک أنها صدرت منه عن تأمل عمیق فی أسرار هذه الأمور الثلاثة التی من بینها موسم الحج ومؤتمره الکبیر، هذا المؤتمر الذی یوحی إلى الأمة بأنه مصدر کل فضیلة ، ومنبع کل القیم الإنسانیة والذی یعتبر بحق رمزاً حیاً للوحدة الإسلامیة الکبرى. تتلاءمان مع بعضهما البعض، وتکمّلان بعضهما بعضاً. والحجاب لا یقف أساساً کعائق أمام المرأة المحجّبة، بل هو وسیلتها الوحیدة للفوز والنجاة، والحجاب فوق ذلک هو کمال الفتاة وجمالها الداخلی والحقیقی الذی یستر مظهرها ویظهر نقاءها وبراءتها، وأنّ حفظ هذا الحجاب یکون بتعرّف الفتاة على حدودها بالتصرّف والتزامها بالمعاییر الشرعیّة کی تکون قدوة لغیرها. محمد یاسر منصور ـ کاتب وباحث | ||
الإحصائيات مشاهدة: 2,146 |
||