لا تحرموا أولادکم من اللعب | ||
لا تحرموا أولادکم من اللعب الدکتور علی السید
ونحن صغار.. کنا نفرح بلعبنا ونقبل على اللعب بشوق وسرور... ونشعر ونحن نلعب بسعادة غامرة.. ومتعة لاحدود لها.. حتى کنا أحیاناً ننسى طعامنا.. وننسى أیضاً ما تفرضه الأسرة علینا من واجبات.. وکم لقینا من لعبنا هذا غضب الکبار وعقابهم.. لأنهم کثیراً ما یرون أن اللعب لهو وعبث ومضیعة للوقت والجهد.. وأن من أصول التربیة والسلوک الحسن أن نکون جادین مطیعین. حدث ذات یوم – وقد تجاوزت الثالثة من عمری بقلیل – کنت ألهو بلعبة جدیدة أثارت کل اهتمامی.. وهی سیارة صغیرة.. کلما أدرت مفتاحها فی جانبها تحرکت وسارت مسرعة.. وکدت أطیر من الفرح کلما رأیتها تجری وأنا أجری ورائها.. وکانت أول مرة أرى لعبة تتحرک من تلقاء نفسها.. من غیر أن أدفعها بیدی.. ونادانی أبی لتناول الغداء معه کعادتنا.. ولکننی کنت مندمجاً فی اللعبة مبهوراً بها.. وکرر النداء.. ولما لم أستجب أقبل علیّ غاضباً.. وراوغته.. ولکنه أمسک بی وانتزع اللعبة من یدی بقوة وطوح بها عبر النافذة.. ورأیتها تتأرجح فی الهواء ثم تسقط بعیداً وتختفی.. وفقدتها.. وکدت أفقد عقلی.. وبکیت وأخذتنی أمی بین ذراعیها وضمتنی إلى صدرها بحنان.. ووعدتنی بلعبة أحسن منها على أن أطیع أبی. وتسجلت هذه الحادثة المؤلمة فی ذهنی.. وبقیت مدة طویلة أشعر بخیبة الأمل.. حتى کبرت.. ولکننی لم أنس.. ومازلت إلى الآن أرکب السیارة الحقیقیة وأشعر کأنها تهوی من علٍ وتتحطم .. فیتملکنی الخوف لحظة ثم یزول. نحن نعلم أن الطفل یولد ولدیه استعدادات ومیول فطریة تدفعه لأن یسلک سلوکاً معیناً فی تحقیق أغراضه.. ویشترک الأطفال جمیعاً فی ذلک دون فروق محسومة بینهم.. وإن کان لکل مرحلة من مراحل نموهم میول واستعدادات خاصة. والمیل للحرکة من أشد المیول الفطریة وأقواها أثراً فی نفسه.. فالحرکة هی التی تدفعه إلى اکتشاف البیئة التی یعیش فیها..وتعرفه حقیقة ما حوله من أشیاء مادیة، ومن أشجار وطیور وحیوان وإنسان واستطلاع حقیقة ما یغیب عن فهمه بالنظر والسمع واللمس. ولذا لم تکن علاقة الطفل بوالدیه علاقة اعتماد فحسب.. بل هی علاقة حب وتربیة ورعایة صحیة واجتماعیة ونفسیة. مع الاهتمام بتدریبه على الاستقلال والاعتماد على النفس والمشارکة فی المسؤولیات الاجتماعیة وغیرها.. وأن یکون له دور إیجابی فی هذه العلاقة المتبادلة وإلا فإنه ینشأ سلبیاً فی سلوکه واتجاهاته العاطفیة والانفعالیة.. ینشأ اتکالیاً معتمداً على الغیر.. لایستطیع أن یقوم بدور مؤثر فی علاقاته الاجتماعیة. وواجب الأسرة والمدرسة التعرف على هذه المیول والکشف عنها فی وقت مبکر لتهذیبها وتعدیلها أو إعلائها بحسب قیمتها للطفل وللمجتمع ذلک لأن الطفل إذا أشبعت میوله یشعر بالسعادة والارتیاح.. أما إذا تعرضت للکبت نتیجة السیطرة والأوامر، اعتراه القلق النفسی والاضطراب الوجدانی مما یجعله عصبی المزاج عدوانی السلوک ضعیف الشخصیة. والطفل یحتاج إلى أنواع من المعرفة لأنها ضروریة لتنمیة قدراته ومهارته فی کل مراحل نموه.. ولما کنا لانستطیع إکراه الطفل على التزود بالمعرفة واکتساب المهارات وغیرها.. فلابد من إغرائه لیأخذ حقه منها.. ویمکن أن یتم ذلک عن طریق اللعب الذی یحبه ویهواه.. من بدء نشأته وهو أیضاً نشاط ممیز فی حیاته.. ولو أننا لانکاد ندرک أهمیة اللعب بوعی.. أو نعطیه قدرة على الاهتمام الذی یستحقه فی تربیة الطفل.. فمن الخطأ أن یفهم الکبار أن لعب الأطفال لافائدة منه.. وأن نشاطه فی اللعب لیس إلا اللهو واستهلاک الوقت والجهد فیما لافائدة منه.. وبذلک یفقد هذا اللفظ ((اللعب)) معناه الحقیقی.. ویکفی أن ندلل على ذلک بأوامرنا المستمرة للطفل بأن یکف عن اللعب.. وأن یفعل ما نریده.. وأن یلتفت إلى دروسه مع أننا نستطیع أن نساعده على تنظیم وقته.. وأن یخصص للعبة وقتاً ولدروسهم والمهام الأخرى وقتاً. ونکون قدوة له.. فتکون لدینا فترات للترویح والراحة بعد ساعات العمل. حقیقة أن لعب الأطفال فی حد ذاته لایکتسب قیمته التربویة إلا إذا أمکن توجیهه حتى لانترک نمو الأطفال بدنیاً ونفسیاً وعقلیاً للصدفة أو للخبرة غیرالواعیة..ولکن رعایة الکبار للأطفال من آباء ومربین أثناء لعبهم یجب أن یکون بعیداً عن التدخل، أو أن نحد من نشاطهم وحریتهم من اللعب.. ولکن یکون لتوجیه الطفل نحو سلوک أفضل.. ومعاونته إذا احتاج للعون.. مع تشجیع نزعاته الطیبة.. ومشارکة نشاطه ومتعة مشارکة وجدانیة فعالة، فذلک یتیح له قدراً أکبر من اکتساب خبرات متنوعة.. ولامانع من أن یخطئ أو یتعثر.. فالخطأ هنا أمر عادی بالنسبة للطفل.. فهو یتعلم عن طریق الخطأ مثلما یتعلم عن طریق الصواب وبذلک تتحقق الرغبة فی النشاط الذاتی، ویدرب على الجد والمثابرة والجرأة.. على أن یؤخذ بالرفق إذا أخطأ أو تعثر.. ویوجه توجیهاً حسناً کی لایخشى الفشل.. وحتى لایرسب فی ذهنه الشعور بالضعف والعجز فیحجم عن النشاط. ونعلم أیضاً أن الطفل یتعرض فی حیاته لانفعالات شتى.. ومنها الخوف.. وهو یرتبط ارتباطاً وثیقاً بانفعالات أخرى.. ویعتبر أحد القوى التی قد تساعد على البناء.. کما تساعد على الهدم فی تکوین الشخصیة ونموها، ومن مثیرات الخوف فی نفس الطفل العقاب الذی یتعرض له.. وقد لایفهم دوافعه. حینما یتوهم الکبار أن ذلک یساعد على غرس السلوک الطیب فی نفسه.. أو حینما یتعرض لبعض المواقف التی تثیر انفعال الخوف. کذلک فإن الطفل – خصوصاً فی الفترة التی تسبق السادسة من عمره – قد یسلک سلوکاً یدل على الغیرة.. لأنه یرید أن یکون موضع الرعایة والمحبة من والدیه.. أو من الکبار فی الأسرة.. فإذا شارکه طفل آخر هذه المحبة والرعایة.. شعر بالمیل فی الاعتداء على ذلک الدخیل.. وشعوره بالغیرة یرتبط دائماً بالأنانیة.. أی أن یرکز الطفل کل اهتمامه حول نفسه. والطفل بطبیعته سریع الغضب.. ربما لأتفه الأسباب.. إذا ضاعت لعبة أو تحطمت أو إذا عومل بقسوة.. أو إذا لم تنفذ رغبته.. وغیرذلک من الأسباب والدوافع. ولهذا فإن الطفل بحاجة إلى التخفیف من التوترات والصراعات التی تسببها هذه الضغوط أو غیرها والمفروض علیه لظروف خارجة عن إرادته.. أن تکون بسبب الأسالیب غیرالرشیدة التی تتبع فی تربیته وکذلک لکبت کثیر من الرغبات التی لایستطیع إشباعها. هنا یکون اللهب وقایة وعلاجاً.. یکون وسیلة فعالة لإشباع رغباته المکبوتة واهتماماته.. وفی هذا الإشباع علاج لقلقه وتوتراته.. وأیضاً لتصریف نزعاته العداونیة ومخاوفه.. وتصحیح اتجاهاته السلبیة. وبواسطة اللعب یمکن للکبار من أسرته والمهتمین بأمره: دراسة سلوکه ومعرفة میوله ورغباته.. على أن یکون لعبه على سجیته، کما یحب ویرغب.. بصرف النظر عن الزمان والمکان.. وبصرف النظر عما یلعب به من أدوات.. ویتحقق المثل السائر: ((الکبار یتعلمون من الصغار)).. یتعلمون منهم حقائق لم تکن فی تفکیرهم. واللعب بمفهومه الحقیقی کعنصر أساسی فی التربیة له عدة وظائف:
الوظیفة الفسیولوجیة: فی هذا المجال تتکون لدى الطفل اتجاهات واضحة نحو کیانه الجسمی ونموه.. وکیفیة استخدام أعضاء جسمه وتدریبها.. ویکون کذلک متنفساً للطاقة الزائدة ولکن یجب أن تکون العاب الطفل الجسمانیة قریبة من رعایة الکبار على قدر الإمکان حتى نجنبه الأخطار التی قد لاتثیر من الانتباه وهو مندمج فی لعبه. الوظیفة الاجتماعیة: یؤدی اللعب دوراً بناء فی نضج الأطفال الاجتماعی واتزانه الانفعالی حتى لایصبح أنانیاً مسیطراً ضیق الأفق. ففی داخل الأسرة.. یساعد الأطفال على شغل أوقات فراغهم حتى لایقضونه فی العبث الطائش.. ویمتص الطاقات الزائدة کما تقدم.. ویبعدهم عن الخلافات والصراعات بینه وبین اخوته أو أفراد أسرته وتتکون عندهم عادات حسنة وعلاقات سلیمة. وفی المدرسة یتعلم الطفل السلوک الاجتماعی المرغوب من خلال انفعالاته وارتباطاته بالأطفال الآخرین.. ویساعد على خضوعه فی المدرسة للنظام التقلیدی داخل الفصل وخارجه والإشراف الجید.. کل ذلک لایکاد یترک فرصاً له للسلوک الاجتماعی السلبی، نساعد الطفل فی مرحلة الطفولة المبکرة حینما نهیئ له فرص اللعب بالألعاب الترکیبیة.. فنجده فی أول الأمر لایهتم بترتیبها والترتیب المناسب لها.. حیث یکون ذلک متروکاً للصدفة.. أی یصنع القطع بجوار بعضها دون خطة مسبقة ولکنه تدریجیاً یشعر بالبهجة إذا صارت هذه القطع تمثل فی نظره موضوعاً.. ثم بعد ذلک یبدأ اللعب بها بطریقة ملائمة منظمة حتى یکون لها معنى.. وعن طریق تنظیمها ومعرفة ترکیبها وحلها..یکتسب مهارات وخبرات تفیده فی حیاته العلمیة، سواء وقت العمل أو وقت الفراغ.. وهذه أیضاً بالنسبة للأدوات الأخرى من اللعب کالعربات.. والحیوانات.. والطیور.
الوظیفة الثقافیة: یخرج الولید إلى الدنیا وهو فی حاجة إلى رصید من المعرفة لیدرک ما حوله غیرما یحتاجه من رعایة للغذاء والکساء.. حتى یصبح قادراً على الاعتماد على نفسه تدریجیاً.. وهذا العجز فی أول نشأته یعتبر إیجابیاً لاسلبیاً.. إذ یمکنه اکتساب المعرفة مع تطور نموه.. وبذلک یتحقق له التطور والتعلیم والتکیف مع البیئة خلال سنواته الأولى التی یحاط بها بالحب والحنان من والدیه وأفراد أسرته. فیتعلم لغتهم ویستفید من تجاربهم.. ویتأثر بعاداتهم وعواطفهم وأذواقهم والطفل – کذلک – یحتاج إلى دعم خیاله إزاء تصوراته.. فهو یقبل بشغف على الکتب التی تحتوی على صور الإنسان والحیوان.. وقد لایفهم فی أول الأمر معنى الکلمات التی یسمعها أو یقرأها فی هذه الکتب ولکنها تسعده بما فیها من خیال. ومع تطور نمو الطفل – حول السادسة من عمره – تصبح قصص المغامرة مثیرة بالنسبة له.. خصوصاً القصص الخیالیة والشخصیات الخرافیة.. وفی الطفولة المتأخرة – حوالی العاشرة من عمره – یمیل إلى قصص الکشافة والرحلات ونحوها. وتتمیز القصة بالنسبة للطفل بالقدرة على جذب الانتباه والتشویق وإثارة الخیال.. ولذا فهی عنصر فعال فی النمو العقلی والوجدانی للطفل. والنشاط الذاتی.. من المبادئ الهامة التی أکدها علماء النفس والتربیة لتکون أساساً لعملیة المعلم للطفل.. فلیس من المفید أن یتعلم الطفل عن طریق التلقین ولکی تتم عملیة التعلیم على خیر وجه، لابد أن یبذل المعلم نشاطاً من جانبه.. ذلک هو النشاط الذاتی.. أی النشاط الذی یصدر من العلم نفسه.. وبذلک یسهل إشباع حاجته إلى المعرفة. واللعب أهم مصادر للنشاط الذاتی لاکتساب المعرفة.. ولهذا کانت أهمیته لیکون موضع اهتمام الکبار.. کما هو الحال بالنسبة لأدوات اللعب. والنشاط الفنی للألعاب یبعث على التذوق الجمالی وینمی الاحساسات الراقیة.. فالصورة تثیر اهتمام الصغیر وکذلک بالنسبة للرسم.. ولو أنه لایستطیع فی أول الأمر إتقان الرسم بسبب نقص اتزانه العقلی.. إلا أنه یظهر السرور والبهجة حین یخط بیده أی شکل بالقلم الرصاص أو بالألوان أو بالطباشیر یعبّر بها عمل یجول بخاطره من معنى أو هدف.. لان هذا الذی یخطّه بیده من رسومات أو أشکال یعبر بها عما بداخله من انفعالات واهتمامات.. وتکون رمزیة فی أول الأمر.. ولکنه بعد السادسة تقریباً یستطیع إتقان ما یخطه بیده على قدر إمکانیاته ومناهجه. وبرامج الألعاب الثقافیة سواء کانت عن طریق أدوات اللعب أو الرسومات والألعاب الإلکترونیة أو أدوات للرسم أو الموسیقى أو عن طریق أجهزة الکومبیوتر أو غیرها لیست لمجرد الترفیه والتسلیة.. وإنما هی وسائل تساعد الطفل على تنمیة الإدراک والحس ومهارات التحکم وغیرها لدیه.. ولما کان الطفل من طبیعته یمیل إلى الاستماع للموسیقى، لذا یمکن أن یتعلمها بآلات موسیقیة بسیطة وسهله تدریجیاً یستطیع اللعب على أدوات أکثر تعقیداً. ولما کانت القراءة وسیلة فعالة لثقافة الطفل.. لذا علینا أن نشجعه لان یقرأ بدءاً بالکتب المصورة.. والألعاب التی تکوّن صوراً.. إلى أن یستطیع قراءة الکتب الثقافیة فی فروع العلم المختلفة.. وعلینا أن نساعده على تکوین مکتبة فی البیت تضم أنواعاً من الکتب والمجلات التی یهتم بها.. ولیس من المهم أن یکون لها شکل خاص.. ویمکن أن تضم لعباً تخصه. وفی نهایة الحدیث نقول: أن الأسرة.. بإیمانها بأهمیة اللعب للطفل وعنایتها لتدعیمه وتنظیمه.. إنما تساعد طفلها على التمتع بوقت ممتع.. یشبع فیه حاجته النفسیة. ومتنفساً لرغباته المکبوتة وصراعاته الداخلیة.. ویزیل عن نفسه السأم والملل .. کما تساعد على التعلم واکتساب الخبرات والمهارات المختلفة.. وسیجد الکبار أیضاً متعة کبیرة فی مشارکة الطفل ألعابه مع عدم المبالغة فی تزوید الطفل بأدوات اللعب أکثر من احتیاجاته وإمکانیاته حتى لانصل إلى نتیجة عکسیة.
| ||
الإحصائيات مشاهدة: 1,183 |
||